شجاع الصفدي
أمد/ لقد قررت حماس أن تحارب،هكذا ببساطة بدأت حما.س معركة أظنها أشبه بالسعى لتقاعد يمنع المزاودة عليها أو المساس بالهالة المقدسة التي أحاطت نفسها بها كمتصدرة للمقاومة عبر معركة تسجل تاريخيا ، وتضمن وجودا سياسيا مستقبليا في أي تفاهمات مفصلية تتعلق بأي اتفاق سياسي مفترض.
ولأن لكل خطوة ثمن متباين، اعتقدت حما.س أنها قادرة على تحمل كلفة النتائج للهجوم الذي قامت به في السابع من أكتوبر،لكنها كما في الحروب السابقة تغافلت عن قدرة الشعب على تحمل الكلفة من عدمه،ولم تفكر للحظة في انعدام أي مقومات للصمود لدى أكثر من مليوني مواطن اعتادت الفصائل أن تلزمهم بأن يسبّحوا بحمد المقاومة وأن ينساقوا خلف شعاراتها مكرهين،ومن يغرد خارج السرب فهو متخاذل خارج عن الصف الوطني، لطالما كانت المعادلة كذلك طوال قرابة عقدين من الزمن ، وصولا إلى ما أسموه طوفان الأقصى ،وهو الطوفان الذي جرف غزة وألقاها في الجحيم، وأعاد مدن القطاع ومواطنيه خمسين عاما إلى الوراء، الطوفان الذي دمر مستقبل أجيال كاملة وحطم أحلام الشباب وطموحاتهم،لم يفكر أحد بالناس،فهم رعاع عليهم الانصياع والتهليل لما تقرره حما.س مهما كانت نتائجه ،ومهما تعاظم حجم الخراب ، ضاع مستقبل الأطفال، هدرت سنة من عمرهم بلا جدوى،طلبة الثانوية العامة الذين سالت أحلامهم مثل دمائهم ، الجامعيون الذي فقدوا كل ما طمحوا إليه وباتوا ملقين على الطرقات في أماكن النزوح يتسولون أو يسرقون ما تطاله أيديهم ،وفي أحسن الأحوال يقفون على بسطة في الأسواق لبيع بعض السلع للحصول على ما يسد الرمق .
هُجر مئات الآلاف بعد فقدان بيوتهم وأعمالهم ومستقبل أبنائهم، خسروا كل ما حققوه طوال عمرهم ، وتحولوا إلى متسولين يُفترى عليهم ويتعرضون للإذلال البشع للحصول على أبسط ضرورات الحياة .
لقد سادت لغة البلطجة، القوي المسلح يأكل الضعيف غير المسنود، ابن المدينة الآوية يفتري على النازح الذي لم يعد يستطيع الدفاع عن نفسه أمام قانون الغاب ، صاحب المخبز يطلق النار فوق رؤوس المصطفين للحصول على الخبز، صاحب السوبرماركت أو أي محل تجاري تحول إلى صاحب سيادة يذل الناس ويضربهم ،وعليهم أن يخرسوا ويقبلوا بالإهانة للحصول على أي سلعة ضرورية بسعر أقل من الأسعار الفادحة في الأسواق ،والتي تتحكم بها مافيا من تجار الحروب الذين جعلوا حياة المواطن جحيما أشد من جحيم الحرب،وفي خضم كل ذلك غابت حما.س عن المشهد الداخلي، فقد انشغلت بالقتال ،أما باقي الأمور فهي ليست ضمن الأولويات، موت الناس أو حياتهم، استغلالهم أو إذلالهم ،امتلاكهم قوت يومهم من عدمه ،تلك أمور هامشية ليس من الوطنية في شيء التحدث عنها بينما يدور القتال !.
لقد قررت حما.س أن تحارب، مراهنة على دعم محور تقوده إيران ، تحسب لتحركات أذرعه كل خطوة، وانتظرت في خضم المعركة أن تفتح أبواب الجحيم على دولة الاحتلال، لكن الجحيم فتح على قطاع غزة وحده، مسحت أحياء كاملة عن وجه الأرض ،تغيرت ملامح المدن،عم الخراب والدمار كل شيء، وظلت تحركات المحور في غاية المحدودية، أشبه بمناوشات خجولة لرفع العتب، و حدّتها مدروسة بميزان حساس ،بينما تدفع غزة وأهلها أثمانا باهظة لا يتحملها أي شعب في العالم ،وغفلت حما.س أن أحدا لن يدمر بلده ويفتح حربا شعواء من أجل حماية حما.س وحكمها لغزة، وأن كل طرف يقيس الأمور وفق مصالحه الاستراتيجية أولا وأخيرا.
وإذا ما نظرنا لأهداف حما.س المعلنة من بدء هذه المعركة، وما تحقق منها أو نتائجها حتى الآن ،سوف نجد الكثير من الأمور الكارثية قد حدثت وخرجت عن سياقها المحدود الذي كانت عليه قبل السابع من أكتوبر .
قالت حما.س أن هذا الطوفان لحماية الأقصى من تعديات المستوطنين ومنع التغيير المكاني والزماني في الأقصى،فما الذي حدث ؟، أصبح الواقع أن الاحتلال ومستوطنيه يفعلون ما يحلو لهم دون رادع، والفزاعة التي كانت تصنع فرقا معقولا أصبحت في خبر كان ،ولم تعد هنالك أي حدود أو ضوابط ،ويتم انتهاك المقدسات تحت مرأى ومسمع الجميع،وحتى لم تعد حما.س تذكر أي شروط تتعلق بالأقصى خلال التفاوض الجاري لأن المعركة ونتائجها الكارثية فرضت واقعا جديدا يجعل هذه التعديات هامشا وليس مَتنًا .
كما قالت حما.س أن هدف العملية هو تحرير الأسرى، لكن السؤال هل يقبل الأسرى أنفسهم بالدمار الهائل الذي وقع في غزة؟!،هل تحرير ألفي أسير يتطلب خسارة عشرات الآلاف من الشهداء والجرحي وتدمير شعب بأكمله،هل هذه عدالة كما تراها حما.س؟!، لا أظن أن هناك أسير يمكنه أن يرى هذه الدماء ثمنا لحريته، والذي ناضل واعتُقل من أجل شعبه لا يمكن أن يقبل بهذا الثمن غير العادل ولا المنطقي.
لقد قررت حما.س أن تحارب ولم تفكر سوى في كينونتها وكيفية بقائها في الصدارة ، أعدت للقتال وجهزت جيوبا للمقا.ومة يمكنها الصمود لفترة طويلة،لكنها لم تفكر للحظة أن تعد الناس لهذا الصمود وتدعمه، تحدث قادتها دوما عن التجهيز العسكري ولم يفكروا لحظة في التحدث عن التجهيز اللوجستي للناس الذين يدفعون الثمن، وفي الوقت الذي عم فيه الخراب وسُفكت الدماء في غزة ،كانت معظم المدن المحتلة في وضع لا يحمل خطورة ،وعمليات إطلاق القذائف محدودة جدا ولا تعطل مسار الحياة هناك فكل الدعم متوفر بكافة أشكاله !! ، بينما تغنّى القادة بالصمود الأسطوري للشعب الذي لم يقرر شيئا في مصيره،فقد استيقظ في السابع من أكتوبر ليجد حربا شعواء قد اشتعلت، بينما آلاف الأسر لا تمتلك قوت يومها، وكافة مجريات الحياة أصيبت بالشلل، وسوف تبقى كذلك لسنوات طويلة. ولا أراه تشاؤما إن قلت أن هذه الحرب ستترك آثارا وندوبا مرعبة في النسيج الاجتماعي ، بين الإخوة والجيران والأقارب ، سوف تتفكك اللُحمة ويسود انقسام ضارٍ أشد وطأة من الانقسام الحزبي الواقع منذ سنوات ،سوف يسود الفقر وتتفشى الجريمة بشكل غير مسبوق ،ويأكل القوي الضعيف،و حما.س نفسها ستتكبد ثمنا ليس هينا في كل ذلك،حتى وإن بقيت سلطتها تحكم غزة بشكل ما، لن تعود أحوال غزة لما كانت قبل السابع من أكتوبر أبدا،هذا التاريخ الذي كان السعي لجعله يوما مقدسا سوف يتحول إلى يوم مشؤوم للأغلبية العظمى، وما أن ينقشع غبار المعركة بأي طريقة كانت،سوف يقتتل الناس على من يغادر غزة أولا ،سوف يتحقق تهجير طوعي دون عناء إسرا.ئيلي،ومن لا يمكنه الرحيل سيجابه حربا من نوع آخر، حرب من أجل البقاء، حرب لحماية عائلته ونفسه من البلطجة وحالة الفوضى العارمة ،سوف تسود لغة القوة ولغة البنادق،وهذا للأسف ليس مجرد رؤية سوداوية وإنما واقع منظور على المدى القريب .
سيذكر التاريخ هذه الحرب لا شك، لكنه سيذكرها ككارثة ونكبة كبرى حلت على الشعب الفلسطيني لا تقل عن نكبة ١٩٤٨، بل ربما أشد، ومعالجة تبعاتها وآثارها سيهدر أعواما طويلة من عمر أجيال عدة ،ومثلما ضاعت عقود في المفاوضات بلا طائل،وعقدين من الحروب بلا جدوى،سيخسر من يبقى حيا من أهل غزة مزيدا من عمرهم ودمائهم لمحاولة إصلاح ما أفسدته الحرب ومعالجة آثارها الدامية وذكرياتها البائسة .
سوف ينقشع غبار المعركة آجلا أم عاجلا ، لكن السواد الذي غطى القلوب لن ينقشع ، وغزة التي عرفناها تتجاوز جراحها وهي مثخنة كل مرة ، لن تعود لما كانت قبل السابع من أكتوبر ،ولن تشفى قروحها الدامية .