عائد زقوت
أمد/ في ظل ما يشهده العالم من حراك لرسم جيو سياسي جديد يتلاءم مع شكل النظام العالمي المرتقب، ومن بينها المنطقة العربية بمقدراتها وموقعها الاستراتيجي؛ وما يُحْذِق بدولها من مخاطر جِدُّ صعبة ومتداخلة الأسباب والدوافع، شَهِدَت غالبيتها تعميقًا للخلاف بين شعوبها وحكوماتها، مما أدى إلى انهيار معظمها وسقوطها في براثن الحرب الأهليّة، ودخولها دوامة الانقسام الأفقي والعامودي، وتبددت قدراتها الإنتاجية، والعلمية والفكرية، وانجرفت ثقافتها وحضارتها، وغدت مَطْمَعًا للقاصي والداني؛ فهذا الواقع المرير لا تعود أسبابه فقط لسطوة الغرب الامبريالي الليبرالي العلماني على العالم، ولا لتحالف الدول العربية والإسلامية مع الغرب لمواجهة الشيوعية الاشتراكية في مرحلة ما من التاريخ كما يحلو للبعض تصويره، ولا يتعلق بضبابية الأداء الحكومي، أو لغياب الحريات العامة والعدالة الاجتماعية والنزاهة والشفافية أو الالتفاف على محاربة الفساد في كثير من الأقطار؛ إنّما يعود بشكل أساسي لغياب وتَغْييب إعمال العقل، وحُجيّة المنطق .
لقد ابْتُلِيَ العالم العربي والإسلامي بِداء الكهنوتيّة، على غرار الحرمان الكَنَسي الذي ادّعى امتلاك الحقيقة وصكوك الغفران في العصور الوسطى، وشيوع العمل بالنقل، وإهمال وتقويض العقل في أبشع صورة يُمكِن أن تتصورها الإنسانية لحصار العقل البشري الذي يُعدّ محور الإيمان بالله، فلم يطلب الخالق سبحانه من الناس عبر الأنبياء والمرسلين الإيمان به عبثًا أو قهرًا أو نقلاً، إنّما خاطب عقولهم وساق لهم الدلائل والبراهين التي تتّفق ومنطق التفكير العقلي والتمحيص والتمييز؛ والدعوة هنا ليست لإهمال النقل والتراث، بل لإعادة النظر فيه، وقراءة النَّص من جديد استجابةً للمعجزة الزمانية والمكانية الخالدة للقرءان العزيز، وما إشاعة العمل بالوصاية الدينيّة والكهنوتيّة إلا نقضًا لتلك المعجزة الربانية الأكبر الممتدة إلى يوم ميراث الأرض.
عمل الكهنوتيون على إقصاء العقل، وأنزلوا أنفسهم مقامًا يفوق مقام الأنبياء والمرسلين، بل جعلوا لأنفسهم مكانة المُطّلعين على الغيب فأكسبوها صفة الألوهية، وهذه المكانة لم يمنحها الخالق لأحد من كافة الخلائق، كل هذا العبث ليتسنّى لهم الهيمنة على عقول الدّهماء من الناس، والتأثير على الوعي الجمعي، حتى أصيب سوادههم باللوثة الفكرية، وداء التألِيه، حيث تَنَازَعَ طُغام الناس تأليه الأفراد حينًا والجماعات حينًا آخر، في مخالفة صريحة للنهج القرآني القائم على التّفكر وإجالة النظر؛ وقد رسَّخ الخالق هذه المنهاجيّة مع الأنبياء والمرسلين، حيث أخذت الأنبياء أنفسهم حيرة العقل والتساؤل أمام المعجزات، فقد رأينا موسى نبي الله ورسوله عندما ناداه الله وأراه من المعجزات ما أراه، وأَمَرَه بالذِّهاب إلى فرعون، استدرك موسى أنه ضعيف ورحلته محفوفة بالمخاطر وبأن هناك مبرر لدى فرعون لِقَتْلِه فقال الآية “قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ”؛ هذا النهج والمنطق العقلي لم يكن موقوفًا على موسى فقط، بل احتكم إليه العديد من الأنبياء في السردية القرءانية، فمِن إبراهيم عليه السلام وطلبه الاطمئنان لكيفية الإحياء، وزكريا عليه السلام وتساؤله عن كيفية أن يكون له ولد وهو شيخ كبير وامرأته عاقر، ومرورًا بيوسف عليه السلام في استجابته لتساؤل الأخرين حول كيفية تأويل الأحاديث، وليس انتهاءً بيوم أُحد الذي قَدَّم وعرض أنصع وأبهى صورة للاحتكام إلى العقل والأخذ بالأسباب الموضوعية حين الهزيمة؛ بسبب مخالفة صفة واحدة من صفات الجُنديّة تمثلت بخطأٍ عسكري؛ حيث لم يشفع لهم حينها وجود النبي محمد صلى الله عليه وسلم بينهم بعدم تجرّع الهزيمة؛ فتساءلوا أنّى هذا فقال الله ردًّا على هذا التساؤل الآية “أَوَلَمَّآ أَصَٰبَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ “؛ فهنا لم يأتِ الرد الإلهي بالقول إنه من عند الله وهذا قَدَرُكُم، إنّما رده لأنفسهم واجتهاد عقولهم، ترسيخًا لقيمة العقل ودوره في عملية الإعداد والتخطيط، واجتثاثًا للاستبداد والكهنوتية الهادفة لأن تكون وسيطًا بين الخلق وخالقهم؛ إذ أنّ كل تدبير دون أسس ومبادئ ليس سوى نزعة اعتباطية تصيب مرة وتُخطئ مرات ومرات.
هل من البديّهي ومن المعقول، بعد هذا الإعمال النبوي الرّسالي للعقل والتفكير، إغفال المنطق الذي هو فرضية العقل وحُجِيَّتهُ؛ فالعقل كسائر خلق الله جعل له سُنَةً تتناسب مع الطبيعة والحياة فكيف يمكن لِمُدَّعي العقل تحييدها، ليس ذلك فحسب بل يُطلِقون العنان لأنفسهم بالبحث عن غطاء وساتر لأخطائهم، والتهرب من تحمل مسؤولياتهم بالقول قَدَّر الله وما شاء فعل؛ وهنا لا بد من التفريق والتمييز بين الفهم المقصود حقيقة لِعِلمِ الله الأزلي كأحد أركان الإيمان، والذي قَدَّر فيه سيرورة كونه وخلقه بكافة تفاصيلها ما كان، وما هو كائن وما سيكون؛ و بين الفهم المغلوط عمدًا لرد كل ما يصيبنا على أنه قدرٌ حتميٌّ من الله بمعنى تحييد العقل واستبعاد الفهم والإعداد والتخطيط حيث أن تحقيق النتائج رهين بتطوير فعل التدبير المتمحور حول النتائج؛ هذا التقصد بإغفال العقل هو فهم مبتور ومخطوء يتناقض كليًا مع حرية الاختيار التي جعلها الله محورًا ومرتكزًا لكافة مناحي الحياة بما فيها الإيمان بالله من عدمه؛ فهذه المحاولات الفجة والمقصودة بالخلط بين المفاهيم، ما هي إلا سبيل للهرب من الاعتراف بالخطأ وعدم إدراك وفهم المشكلات، وإمعان في طلسمة العقول، وتصيير الناس قطيعًا يسهل سَوْقَهم حيث أرادوا.
السُّقام والمرض العضال الذي دهم المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة ناجم عن ضمور وانكفاء الفكرة الإسلامية السليمة في الساحة الفكرية في المنطقة العربية، وسيادة الوعي الجمعي المنخفض بعد تحميل الإسلام -كَدِين- أسباب التخلف والتأخر عن مواكبة التقدم الحضاري بكافة أنماطه وألوانه، والتقافز عمدًا عن الأسباب التي تتعلق بممارسة وسلوك الامبراطورية العثمانية كآخر امبراطورية مُسلمة، في تكريس إهمال العقل والوعي بالواقع، فعلى سبيل المثال حاربت ظهور الطباعة لمدة ثلاثة قرون؛ ليس ذلك فحسب بل أصدرت فتاوى دينية بتحريمها، في الوقت الذي لم يتجاوز فيه عدد من يعرفون القراءة في حينه نسبة محدودة للغاية من السكان، مقابل نسبة مرتفعة عدة أضعاف في أوربا، هذا التوجه المتنافي مع سمو الفكرة الإسلامية ودعوتها لإعمال العقل في البحث والتفكير، ومواكبة التطور البشري في اختيار شكل الحُكم وآلياته؛ يستهدف خلق بيئة قابلة لاستمرار الاستبداد والكهنوتيّة الدينيّة، وتأويل الدِّين تأويلًا سلطويًا كسبيل للهيمنة على نظام الحُكم فكان ما كان من تردي الحالة العربية والمجتمعات الإسلامية؛ وبديلًا عن المراجعات الذاتيّة والنقديّة البناءة، وإحداث نهضة حقيقية تعمل على تفكيك تلك المعضلات؛ ظهرت التيارات الإسلامية ذات التفكير الاختزالي منذ قرن من الزمان، حيث أمكنهم اختزال الإسلام بل والدنيا جميعها في جُمل محددة، وعبارات فضفاضة شعبويّة صفريّة؛ تُقِدم النتائج على الأسباب؛ وعملوا على تقديمها للشعوب كأنها غيوم بيضاء تبدو فاضلة تدافع عن الدِّين والقيّم والحرية والعدالة والمساواة، لكنها غيوم تحمل في ظلالها ظلمة غاسقة لا تخلو من الأجندات الخفية، والدوافع الذاتية.
شيوع النمط الفضائي الانفصامي أفضى إلى التسطيح والفشل وانسلاخ الأفراد عن مجتمعاتهم وأوطانهم؛ وما زاد الطِّين بِلة كما يُقال طغيان واجتياح الفكر الاختزالي الشمولي للمنطقة العربية تحت عباءة الدفاع عن الإسلام؛ فانبرى هؤلاء للترويج لفكرة أن تياراتهم وجماعاتهم تساوي الإسلام حسب نظرهم، وهي مُحيطة به وحازت الإسلام كُلَّه، فجعلوا من أنفسهم معيارًا وتعييرًا للجماعات الأخرى، ولعامة المسلمين بل والناس جميعًا؛ هذه الجماعات التي قامت على النرجسيّة والذاتيّة، وَصَفَتْ نفسها ومرتاديها بالغرباء، الذين تَفضَّلَت دعوتهم على الدعوات؛ فالناس في نظرهم سُبُلُهم مُلْتَبسة، ويعيشون في ضلال؛ هذه النزعة الفكرية المُشوشة والمغايرة لمراد الله؛ ساقت الدول العربية والإسلامية بكافة مواطنيها على اختلاف معتقداتهم، وتوجهاتهم الفكريّة سوقًا إلى آتون الاختلاف والانحدار نحو الهدم فشوّهت تلك النّزَعَات الفكرية مفهوم الدولة وتاريخها، وسَخَّفَت من الإنجازات، وأرست مبدأ الاستقطاب والانقسام داخل خطابها السياسي والديني، وانتهجت التشكيك والتخوين سبيلاً لإسقاط الفكرة من خلال إسقاط حاملها؛ وأطلقت الحبل على غاربه لعناكبها السُّميّة لعقلنة وتسويق فكرة الهدم ثم البناء، وتقديم القتل للناس كظاهرة مساوية لظاهرة الموت الطبيعي؛ في خروج صريح عن المنهاجية التراكمية الإلهية في دعوة الناس إلى التوحيد، وبناء وتشييد حضارة الاستخلاف، واستعمار الأرض عبر جميع الرسالات والاصطفاءات؛ فبذلوا محاولات محمومة للترويج للحاكمية العالمية بمفهوم أن لا إمرَة إلا لله ولا تشريع فيما لا نَصَّ فيه للبشر تجسيدًا للكهنوتية وقداسة منطلقاتهم، واتخاذ المماتعة الفكريّة نهجًا فأصبح الولاء لتلك الجماعات غاية سبيلها الزِّراية في المبادئ الوطنية الجامعة، فتراجع الإخلاص لقضايا الشأن العام، وتنكَّر الناس لمعاني العزَّة والكبرياء، والاستمساك بالحق والواجب، ونشأ عن ذلك حالة نفسية هي أبعد ما تكون عن الحالة الوِحْدوية التضامنية الوطنية فانكفأت المجتمعات على نفسها وانشغلت بذاتها على حساب نهضتها، وعلى الرغم من التصدي الفكِّري والدِّيني لتلك المحاولات إلا أنها كّلفت الدول ذات الأغلبية المسلمة وكافة مواطني المنطقة العربية ثمنًا باهضًا من استقرار الدول وتعطيل عجلة البناء والتنمية، وجمود التفكير وحصار العقول بقوالب جامدة ألقت بظلالها على تماسك النسيج المجتمعي، وتأخر وتخلف مجتمعاتنا عن مواكبة التقدم الحضاري، وانحسار تأثيرنا في المشهد الأممي فيما يخص التنميّة والعلوم والحفاظ على سيادتها واستقرارها، وتأثيرها السياسي فيما يدور حول العالم من أحداث، وخصوصًا قضيّتة المركزية فلسطين التي تُعد مركزًا للهجوم الغربي الامبريالي وقِوى الشر العالمية للسيطرة على الدول العربية، وما يجري من محاولات لتصفية القضية الفلسطينية تمهيدًا لاستكمال أهداف الهجوم الامبريالي؛ فكل ما جرى ويجري هو نتيجة حتميّة للفكر والنهج الخاوي والمُفْرَغ من إعمال العقل والتمييز والتمحيص، والراكض خلف ما يَعْتَقِدُ أصحابه أنها مبادئ ومسلمات وحتميّات دون أي اعتبار للمتغيرات والمعطيات المتجددة مع حركة التاريخ، ووعي الواقع.
لزوم ما يلزم :-
في كثير من الأحايين يخضع الأفراد أو الجماعات لتأثير باب النشوة الفكرية أو السلطوية التي تدفع قائلها أو قائليها لقول بعض المعاني أو الأفكار الخارجة عن المنطق العقلي وحُجِيَّته، بل خارجة عن القدرة البشرية؛ فجعلوها مَعْبَدًا تُذْبَحُ عليه الشعوب؛ ألا ينبري واحدٌ راشدٌ من هؤلاء بعد سلسلة طويلة من الانزلاقات التاريخية والنكبات السياسية قَرْنِيّة الزمن؛ ليتمثل قول ابن الفارض العَالِم الشاعر المُحب؛ استغفروا لِعَمِكُم الكذّاب.