د. محمد صالح الشنطي
أمد/ هل نتغنّى بالبطولات أم ننشغل بنعي الأموات منذ السابع من أكتوبر الحد التاريخي الفاصل بين زمنين : الأول تاهت تفاصيله على إيقاع الفرح المفاجئ بنصرٍ مفاجئ غير محسوب النتائج لا أطن أنه نفّذ بقرار مرتجل كما يتصوّر البعض بل تم الإعداد له منذ أ اتخذ قرار الانفصال ؛ بل ربما كن (الحسم العسكري) المصطلح الذي أطلق على الانقلاب العسكري على السلطة الوطنية الذي ظنّت حماس بأنها امتلكت زمامها بعد نجاحها في الانتخابات ، – وهي التي كان رئيسها اسماعيل هنية يسخر فيه من الدولة الفلسطينية التي قال عنها إنها دولة في الهواء ثم قبل أن يصبح رئيساً لوزرائها – ضاربة عرض الحائط بنصوص القانون الأساسي الذي أقرّ ديمقراطيا في المجلس التشريعي، وجعل من النظام السياسي لدولة فلسطين نظاماً رئاسيّا؛ أي أن الحكومة يختارها الرئيس وتنفّذ سياساته التي هي سياسة منظمة التحرير ؛ وعلى الرغم من أنها شكّلت منهم- بمباركة من الرئيس وعزوف من حركة فتح عن المشاركة فيها -رفضت من الدول المؤثّرة في العالم فحجب التمويل عن السلطة الذي التزمت به تلك الدول قاموا بتشكيل ميلشياتهم الخاصة التي سميت بالقوة التنفيذية ، بوصفها قوة أمنية وطولب الرئيس بالاعتراف بها ، ومع ذلك لم يرق لهم الأمر؛ ففي ليلة ظلماء اتخذ القرار بالاستيلاء على السلطة بالقوة المسلحة حيث أغلق القادة هواتفهم ورفضوا أي تسوية ممكنة، فقتل من قتل وهم بالمئات وأصيب من أصيب بإطلاق الرصاص مباشرة على سيقانهم بقصد بترها تماماً ، وكان قد تساوق معهم وأصبح ذراعهم الأيمن صاحب حركة الإصلاح المزعوم وزمرته بعد أن كانوا ألدّ أعدائهم كما زعم و زعموا ، فعاب عن مسرح الأحداث ليمكنهم من تنفيذ مخطّطهم ، ولكن ما لبث أن كُشف المستور وذاب الثلج فبان المرج ، وأدانه التحقيق و كُشفت عورته و عورات جماعته فطرد وفرّ بجلده واحتضنته حماس بوصفه مصدراً من مصادر التمويل المطلوب ، وكان لقوى آخرى في الدولة العميقة لبعض دول الإقليم يد فيما وصلت إليه الحال فبُيت الأنفاق التي استنزفت الموارد على مدى ما يقرب من عقد ونصف من الزمان واستنهضت همم العدوان الإسرائيلى لاستنزاف القوى في أكثر من خمسة حروب تدميرية لعلها تمت بتواطئ بين دولة عميقة في أقصى الشرق وأخرى هي دولة الكيان الغاصب ، وتمت تهيئة الظروف بتجنيد قوى قطاع عريض من شباب غزة الشجعان الذين تم تدريبهم واستثمار طاقتهم وشحنهم بروح قدسية عالية المنسوب وتجنيدهم باسم العقيدة الإسلامية فكانوا أسودا في الحرب التي خاضوها بإخلاص وطني و عقدي منقطع النظير ، هم ورجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه من الفصائل الأخرى التي وجدت في مقاتلة العدو واجباً وطنيّاً ومنهم كتائب شهداء الأقصى الذين لم تسمح بتشكيل أكثر من كتيبتين منهما كما أشار إلى ذلك الأخ توفيق الطيراوي ؛ ولكن أحدا لم يكن يدر بخلده أن وراء الأكمة ما وراءها ، وأن هذه الثروة الهائلة من الشباب مقدّر لها أن تُهدر هي و دماء مواطنيها في حرب أريد لها أن تسير في طريق معروفة النتائج : تدمير خمس محافظات هي محافظات القطاع و تحويلها إلى خرائب كما وعد جزّار القرن منذ اللحظة الأولى ، والعمل على تهجير أهلها قسراً أو طوعاً عبر فتح منافذ للنجاة بثمن أو بدون ثمن ، حيث يصبح العيش في غزة بقاء في جحيم الموت والجوع والوباء و الدمار ،ففُرضت الإتاوات على الخروج لمن يستطيع دفعها ، ورحبت دول أوروبية باستقبال المهاجرين وتم التخطيط لفتح منافذ للخروج عبر ما عرف بالمرفأ المؤقت الواصل بين غزة و فبرص ومن ثم إلى المجهول . أمّا الميدان فترك للغارات التي تستبيح الحجر والشجر و البشر في وجبات يومية تتراوح عدد ضحاياها ما بين ثلاث مئة وخمس مئة من المدنيين بين شهيد وجرح ، وتظل المفاوضات تراوح مكانها تاركة للجيش الأخلاقي فرصة قتل المزيد مقابل بضع عشرات من الأسرى الذين يطالب العالم كلّه بالإفراج الفوري عنهم دون قيد أو شرط بما في ذلك محكمة العدل العليا متجاهلين أكثر من اثني عشر آلف أسير فلسطيني يقبعون في سجون العدو في ظروف قاسية أرادها ( بن غفير وسومترتش) وبقية العصابة الكاهانية جحيماً لا يطاق ، ودون النظر إلى مئات المعتقلين من المدنيين الشيوخ و الشباب و المسنين و المرضى الذي تتم تعريتهم في زمهرير الشتاء و إذلالهم عياناً بياناً أمام نظار دول العالم التي استفزت شعوبهم من هول المشاهد التي تطالعهم صباح مساء على الشاشات : أُسر تقتل أجيالها الثلاثة : الأجداد و الآباء و الأحفاد ، ومدنيون هائمون على وجوههم تملأ جثثهم شارع صلاح الدين وشوارع المدن والقرى والحارات و المربعات السكنيّة و تحت الأنقاض، و تسمم آبار المياه وتنبش القبور وتنتهك الحرمات ، وعلى الرغم من الخسائر التي يوقعها المقاومون الأبطال في جيش العدو فإن الأعداء لم يرعووا بل ينتقمون من المدنيين ، وبعد أن كانت غزة عروس البحر الأبيض المتوسط أصبحت أرملة الرمال المخضبة بالدماء . إنه الطوفان الذي غمر الساحة بالدم و الفوضى و الضياع تحت شعارات تحوّلت إلى معتقدات ثم إلى سيف بتّار (قسم العرب ليس عربين فحسب ؛ بل عربان كثر ) تشتتوا بين المواقع خارج الخريطة الأم في الجهات الأربع ، ولما جاء الطوفان الكاسح أحدث واقعاً جديداً مرتبكاً غمر كثيراً من المعالم و التفاصيل التي سكن فيها الشيطان وأدار لعبته بذكاء . أذهلتنا بطولة الاقتحام و جسارة الالتحام وما طفى على سطحه من مظاهر نصر رفع الروح المعنويّة وجرف كثيرين إلى مربعات جديدة ركبت الموجة ، وليس من يستطيع لومها أو محاسبتها ؛ بل داست كل من حاول أن يتوقّف ليتأمل المشهد وآثاره بعد الطوفان ؛ ووقفت فتح على لسان الكثير من قادتها يمجّدون العملية ويشيدون بها ، ورفض الرئيس محمود عباس إدانتها وانبرى سفراء فلسطين في مختلف أنحاء الأرض يدافعون عن المقاومة وفي مقدمتهم السفير حسام زملط ، وزميلته السفيرة ابو حصيره في فرنسا وغيرها من أقطار العالم ، وأحدثوا تحوّلاً ملحوظاً في السياسة الإعلامية الغربية ؛ بينما انبرى عدد من قادة حماس والفصائل الأخرى وغوغاء ممن ينتفعون أو حاقدون موتورون أو جهلة مضللون لاتهام السلطة وفتح وسيّروا المظاهرات ضدّها وملؤا الشوارع بالهتافات المعادية ؛ ولست هنا في معرض الإشادة أو التنديد ؛ ولكن العرض و التوضيح ؛ ليست فتح ولا السلطة بمنأى عن المقاومة، فلولا فك الارتباط الأمني كما أقرّته اتفاقية أوسلو نتيجة تجاوزات حكومات نتنياهو المتعاقبة لهذه الاتفاقية و محاربتها مع اليمين و المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس و الجهاد) لما اندلعت المقاومة في الضفة ولما استطاعت حماس أن تحكم و ترسم وتحمل قضيتنا على جناح المجهول بفضل تفريطها بالقرار الفلسطيني المستقل و السعي وراء وحدة الساحات المزعومة التي تحكّمت حتى في القوى العربية التي آزرت المقاومة . وها هي تتحكّم في المفاوضات الجارية التي دعونا – كما دعا الكل الوطني – أن تكون بين حماس بوصفها جزءاً من منظمة التحرير الممثل الشرعي و الوحيد الذي يعترف به العالم والسلطة الوطنية الشرعية في وفد مشترك، واستراتيجية موحّدة لا أن ترفض إلا أن تتفرّد بقرار الحرب و السلم ، وقد تناهى إلينا عبر وسائل الإعلام أنها رفضت الاجتماع بالرئيس محمود عباس في حين قبلت بمن شقّ عصا الوحدة في فتح وقبل أن يكون عرّابا للغير لتمرير مخططات العدو ، ولا ندري بعد ماذا سيكون عليه المستقبل إذا اجتاح العدو رفح ومخر عباب البشر بدباباته و مدفعياته وطيرانه . ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.