د. رائد موسى
أمد/ العدوان الحربي الإسرائيلي الذي وصل حد الإبادة البشرية تجاه قطاع غزة، والذي تلا عملية السابع من أكتوبر التي نفذتها حركة حمـ.اس ضد إسرائيل وأطلقت عليها “طوفان الأقصى”، أتى بعد جملة من التطورات اذا تتبعناها نكتشف بان الولايات المتحدة الأمريكية تقف خلف تفاصيلها.
في البداية كان من المُثير أن يُعلن الرئيس الأمريكي بايدن في التاسع من يوليو2023، في كلمة على هامش قمة مجموعة العشرين (بغياب الصين) عن “صفقة كبيرة”.. خط شحن وسكك حديدية من الهند إلى الشرق الأوسط (الامارات- السعودية – الأردن – اسرائيل) ثم أوروبا، على أساس ان يُوفر الممر بديلاً حقيقيًا أو منافسًا لمشروع الحزام والطريق الذي أعلنت عنه الصين في وقت سابق.
الرئيس الأمريكي أعلن عن المشروع وكأنه قد حسم قضية التطبيع بين السعودية وإسرائيل، فلا يمكن لهذا المشروع ان يتم بدون تكامل وتعاون إقليمي بين إسرائيل والسعودية، وأيضا لا يمكن لشركات واستثمارات عالمية ان تضع أموالها ومقدراتها من محطات شحن ونقل في منطقة صراع مليئة بفصائل ومليشيات مسلحة تستخدم القذائف الصاروخية وقذائف الهاون والطائرات المُسيرة المسلحة.
لذلك منذ لحظة إعلان الرئيس الأمريكي لهذا المشروع الشرق أوسطي، كان من الواضح بان هناك ترتيبات لا بد ان يتم الاعداد لها لتغير الصورة القائمة في المنطقة، والتي من أهمها ضرورة حسم قضية التطبيع بين السعودية وإسرائيل، والتي تصطدم بالشرط السعودي القاضي بضرورة قيام الدولة الفلسطينية المستقلة مقابل التطبيع.
الشرط السعودي ليس مجرد شرط نابع عن رغبة عربية قومية، انما هو شرط موضوعي كي تنجح مشاريع التكامل والتعاون الإقليمية التي ستكون اسرائيل جزء مهم منها، فيستحيل ان ينجح أي مشروع اقتصادي اقليمي في ظل الصراع القائم في فلسطين، والذي بدوره يغذي التطرف الديني ويزيد من الرصيد الشعبي للأحزاب الدينية لدى أطراف الصراع؛ لذلك كان لا بد لأمريكا بان تتخلص أو تُحجم من القوى السياسية الدينية المتطرفة، بما يعزز مكانة ونفوذ القوى السياسية الليبرالية العلمانية الأقدر على التماشي مع الرؤية الأمريكية الاقتصادية الاقليمية في المنطقة.
هنا لاحظنا التجاهل والنبذ الأمريكي للحكومة الإسرائيلية المتطرفة، فلم يتم استقبال نتنياهو في البيت الأبيض بعد تشكيله لحكومته المتطرفة، وتمت مقاطعة وزراءه. ومن جانب آخر لاحظنا بداية تقليص الدعم المالي القطري لحركة حمـ.اس في غزة، وما تجدر الاشارة اليه هنا بان قطر وكما صرح سفيرها في واشنطن في 16/11/2023 ، وذلك في رده على نائبة أمريكية بان: “علاقتنا بحمـ.اس كانت بالتنسيق مع حكومتكم”.
كان من الواضح أمام الولايات المتحدة بان تقليص أو حتى وقف إيصال الأموال لحركة حمـ.اس سيدفعها أو بالأصح سيحشرها أمام خيارين، أولهما: الاستمرار بالضغط على الجمهور في غزة من أجل توفير موارد حركة وحكومة حمـ.اس المالية، وذلك بفرض المزيد من الضرائب والتي أصبحت يستحيل ان تغطي نفقات ورواتب الحركة وحكومتها بدون المنحة القطرية، بما سيؤدي ذلك اما لثورة شعبية ضد حمـ.اس أو تمرد داخلي يؤدي لانهيار حكومتها أو كلاهما.
اما الخيار الثاني: فهو تنفيذ حمـ.اس لعملية عسكرية كبيرة تقلب الأوضاع وتعفيها عن التزاماتها وواجباتها تجاه عناصرها وموظفيها وتجاه الجمهور الفلسطيني في غزة.
وحسب تصريحات قادة حمـ.اس المتكررة وخصوصًا قائد الحركة في غزة يحيى السنوار، كان من الواضح بان الحركة تفضل الهجوم العسكري ضد الاحتلال على الانهيار الداخلي. ومن ابرز التصريحات كان خطاب السنوار في 26 /5/2021 والذي قال فيه: “سَنحرق الأخضر واليابس إذا لم يتم حل مشاكل غزة”.
وقد تلاه مغادرة معظم قيادات الصف الأول وحتى الثاني من حركة حمـ.اس بعائلاتهم لقطاع غزة، بعملية إخلاء تشير بشكل واضح بانهم مدركين إلى ان القرار الأمريكي لإنهاء حكم حمـ.اس في غزة قد أُتخذ، ومن المعلوم ان انهاء سيطرة حركة حمـ.اس على قطاع غزة مرتبطة بإنهاء قوتها العسكرية في غزة، وهذا لا يتم الا بعملية تدمير عسكرية واسعة النطاق ضد قطاع غزة.
في الـ 16 /7/2023، صرح وكيل وزارة مالية حمـ.اس عوني الباشا بان: “الحكومة تمر بأزمة مالية خانقة”، “توقف المنحة القطرية وارتفاع سعر الوقود المصري وقلة المنح للوزارات”، “الحكومة تستدين من البنوك، وأن وصيد وزارة المالية في البنوك صفر”. وهنا يتضح ان ساعة الصفر لانفجار الأوضاع وتنفيذ عملية الهجوم العسكرية الكبرى قد حانت، والتي كان يقال عنها “عملية يوم القيامة”، فمن أهدر جبال من الجهود من أجل حفر الانفاق، وسنين طويلة من السهر على جمع المعلومات حول جيش الاحتلال، وأشهر طويلة من التدرب على الطيران الشراعي، وعمل متواصل على تطوير المُسيرات وتكديس الصواريخ، من البديهي انه لن يختار الانكفاء والاستسلام لفوضى الافلاس الداخلي والانهيار بصمت.
بذلك يظهر بشكل جلي بان المال هو المحرك الرئيسي للأحداث، والذي لم يكن يتحرك الا بإذن أمريكي وقد توقف بالأمر الأمريكي بغية تفجير الموقف واعادة ترتيب المنطقة بما يتلائم مع اعلان بايدن الجريء بالتعاون والتكامل الإقليمي العربي الاسرائيلي.
بالإضافة لقضية الاحتياج الأمريكي للعودة بقوة الى الشرق الأوسط لمنافسة الصين في خطوط التجارة الدولية، وعدم ترك فراغ تملئه الصين في المنطقة، وخصوصا بعد نجاح الصين بعقد مصالحة بين السعودية وإيران، فهناك أيضا عوامل تدفع الجانب الأمريكي للبحث عن حل جدي للقضية الفلسطينية ومن أبرزها:
– القضية المحالة من الجمعية العامة للأمم المتحدة لمحكمة العدل الدولية بشأن الآثار القانونية المترتبة على انتهاك إسرائيل المستمر لحقوق الشعب الفلسطيني، وما يمكن لقرار المحكمة في تلك القضية بان يغير من مفاهيم الصراع والاحتلال القانونية والسياسية التي كانت سائدة لدى الغرب المتبني للرواية الاسرائيلية حول الاحتلال.
– المعضلة الديموغرافية لإسرائيل، حيث يتجاوز تعداد الفلسطينيين عدد اليهود على أرض فلسطين، وخصوصا لدى الجيل الفتي بفجوة متسعة أصبحت تدق ناقوس الخطر على حقيقة وجود دولة يهودية كما يطمح المشروع الصهيوني، بما يتطلب ذلك ضرورة الفصل وقيام دولتين.
– التطور التكنولوجي المتسارع في صناعة الأسلحة المُسيرة والذكية، بما لن يبقي التكنولوجيا حكرا لطرف من أطراف الصراع، وبما ينذر الى صعوبة بقاء اسرائيل المتفوقة أمنيا وعسكريا في المنطقة وفي الأراضي المحتلة.
اليوم وبعد تفجر الأوضاع وممارسة اسرائيل لهذا العدوان الإجرامي الشامل الذي وصل لحد الابادة البشرية لسكان غزة، وتكثيف الممارسات العدوانية الاجرامية تجاه الضفة الغربية، يتضح بانه من فجر الأوضاع يتوقع تحقيق التالي:
– جعل الشعب الفلسطيني قابل أكثر من أي وقت مضى على تقبل أي تسوية سياسية قادمة.
– تخفيض الاكتظاظ الديموغرافي لقطاع غزة، بما يرجح كفة ميزان الصراع الديمغرافي لصالح اسرائيل.
– التخلص من الأجنحة المسلحة للفصائل الفلسطينية، والتي كانت تمثل ذريعة اسرائيل بعدم التقدم نحو التسوية السياسية.
– تراجع مكانة اليمين المتطرف في المجتمع الاسرائيلي بما يسهل تمرير أي تسوية سياسية قادمة.
– تراجع الدعم الدولي لإسرائيل في صورتها الحالية بما يدفعها للتغيير والسعي من أجل تسوية سلام سياسية تعيد لها مكانتها الدولية.
اليوم بعد كل تلك الجرائم الكبرى التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وبعد ان بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بتكثيف تصريحاتها حول ضرورة قيام دولة فلسطينية ليعم السلام والتطبيع في المنطقة؛ هل سيتمكن شعبنا الفلسطيني بالاستقلال بدولته المستقلة التي تلبي حقوقه المكفولة بالشرعية الدولية ؟ ام سيتعرض لخديعة تبرئ الاحتلال الاسرائيلي من جرائمه وتدمجه في المنطقة دون ان يدفع الثمن اللازم لذلك ؟