وجدان شتيوي
أمد/ أيّام معدودات ما أسرع مرورها! ككلّ الأوقات الجميلة سرعان ما تنتهي دون استغلال كلّ تفاصيلها، رمضان أصبح في عشره الأواخر، وما لبثنا أن نحسّ به، أو نحيا معه ونتفيّأ في كنفه ظلال السّكينة والطّمأنينة. العشر الأواخر منبّه إيمانيّ روحانيّ لمن قصّر في ثلثيه الأوليين، العشر الأواخر التي تتحرّى بها ليلة القدر الأفضل من ألف شهر.
وفي رمضان المنحة الربّانيّة لقلوبنا وأرواحنا، تجلى القلوب وتتطهّر، وتنتشل الأرواح من الغرق في بحر الحياة وملذّاتها الزّائفة المؤقّتة. ولذلك فمع قرب انتهائه تعصف رياح الضّجر بالقلوب، والخوف يسيطر علينا من عودة الحال كما كان، فهذا هو الهاجس المقلق للكثيرين، اكتئاب ما بعد رمضان كما يمرّ البعض باكتئاب ما بين الفصول ولأنّ رمضان الفصل الإيمانيّ الأقوى والأهمّ، يمرّ الكثيرون بعده بحالة من الاكتئاب وخاصّة من تغيّر حاله فيه كثيرا، فلماذا هذا الاكتئاب؟ وما السّبيل للتّعايش معه أو التّقليل من أثره وعلاجه؟
من أهم أسباب هذا الاكتئاب أنّ رمضان يكون خروجا عن الرّوتين اليوميّ المعتاد، وتغييرا حتّى في نظام الغذاء والنّوم والتّكافل الاجتماعيّ والعلاقات الأسريّة، فالأسباب تتعدّد ما بين جسديّة ونفسيّة واجتماعيّة وروحانيّة، ففيه تختلّ السّاعة البيولوجيّة للإنسان باختلال ساعات النّوم، أو النّوم المتقطّع، وهذا من أهمّ ما يسبّب له الإرباك والتوتّر النّفسي فيما بعده، إلى أن يتمّ إعادة برمجة وضبط جدوله اليوميّ.
فيه تجتمع الأسرة على مائدة واحدة قلّما تجتمع عادة، فيلمّ الشّمل وتوصل الأرحام، كما يكون فرصة مثلى لإنهاء الضّغينة والخصام، فيه تملأ الأوقات ما بين سحور وفطور وذكر وزيارات وصلة للأرحام، فيه تحاط النّفس بالسّكينة من كلّ جانب، ويسودها السّلام الدّاخليّ، ويفتح للأمل برحمة الله فيها كلّ باب، يوثّق الإنسان صلته بالله بدعوات راجية صادقة، يوقن أنّها لن تعود خائبة، وأن أكفّه ستفيض خير الإجابة.
وبانتهاء رمضان انتهاء للفسحة السّماوية هذه، إذ تعود الحياة لروتينها القديم، وتسير على نفس النّظم والإيقاع، ولأنّ الإنسان يحبّ التّغيير، ويتوق ويسعى دائما للخروج عن قافية الأعباء، ونسق الأيّام فمن الطبيعيّ أن يصاب باكتئاب تتفاوت حدّته وأعراضه كلّما عاد لنفس الدّائرة التّي يعيشها، بذات الاعتياد، ونفس الشّعور، وذات الأمنيات. فماذا عسانا نفعل ونحن لا نملك عجلة الزّمن، ولا أداة لإطالة مدته؟
أوّلا: علينا أن نعيش هذا الشّهر بحذافيره، ونستغلّه وكأنّه الأخير في أعمارنا، وألّا نفقد لذّته ونحن فيه بالتّفكير في الخوف من رحيله، وكيف سنتأقلم بعده.
ثانيا: علينا أن نحرص قدر الإمكان بالاحتفاظ بأثر رمضان من قراءة قرآن وذكر واستغفار، والتزام أذكار الصّباح والمساء كلّ يوم كغذاء لأرواحنا، حتى تظلّ في حفظ الله ورعايته، ولا يصيبها الفراغ والضّغوط.
ثالثا: علينا ملء أوقاتنا، وقتل فراغها، واستغلالها بما ينفع دنيانا وآخرتنا من علم وعمل وتنمية للذّات أو تطوّع أو ممارسة الهوايات وتطويرها، وإسعاد الآخرين ما استطعنا إلى ذلك سبيلا؛ لأنّ ذلك يعود علينا بسعادة أكبر، ويغمرنا ثقة بأنفسنا وطاقة إيجابيّة.
رابعا: علينا ممارسة الرّياضة، وتخصيص وقت لها؛ لما لها من أثر في صحة النّفس والبدن، فالعقل السّليم في الجسم السّليم، وإذا سلم العقل لم تعصف به أيّ مؤثّرات، ولم يضرّه أيّ طارئ.
خامسا: علينا أن نبني شبكة علاقات اجتماعيّة صحيّة يكون الانسجام وحفظ الودّ أساسها، وأن نحتفظ بتواصلنا مع الأهل والأصدقاء، ولا نجعل الجفاف يصيب علاقاتنا بهم مهما انشغلنا فذلك يعود علينا بصحّة وراحة نفسيّة.
سادسا: علينا التّجديد والتّغيير في حياتنا بين الحين والآخر كرحلة لمكان جديد، أو نزهة بين الحقول، أو جلسة مع الأصدقاء، أو زيارة لمدينة الملاهي، أو حديقة الحيوان، المهم ألّا نجعل الملل يتسلل لحياتنا أبدا.
ابحثوا عن كل ما يسعدكم، ويجدّد طاقاتكم، ولا تتردّدوا في تجريب أيّ شيء جديد يدخل البهجة على قلوبكم مهما بدا بسيطا أو تافها لدى غيركم. وكلّ عام وأنتم بألف بخير، وقلوبكم سالمة من أيّ اكتئاب، وأرواحكم نقيّة من الكدر والضّلال.