محمد المحسن
أمد/ أسمع طفلاً يثغو فى المهد
وأسمعه يثغو..
يا ربّ يشب له وطناً
فأنا عشت بلا وطن
وأنا أعرف كيف يعيش الزرع السائب في الماء
ويشتاق إلى أي تراب …
مظفر النواب
على وقع العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة المُحاصَر،سيأتي عيد الفطر المبارك “ثقيلًا” على “الغزاويين”.
وبين الركام الذي خلّفه القصف الإسرائيلي،والألم على فقدان الأحبّة من الشهداء،قد تغيب البهجة عن وجوه -أبناء القطاع المقَطّع-
وسينعكس الواقع القاسي على الأطفال،الذين لم توفّرهم الغارات الإسرائيلية،وسقط الشهداء في صفوفهم،حيث ستبدو وجوهم شاحبة.
“عيد سعيد على كل البلدان العربية والإسلامية ولكن ليس سعيدا على أهالى غزة”*،قطاع يتعرض لحرب إبادة جماعية منذ أكثر من 6 أشهر،لا استعداد للعيد مثل ما يحدث في كل البلدان العربية والإسلامية،فعيد الفطر عند المسلمين شيء ولدى قطاع غزة شيئا أخر،فالأول يسوده الفرحة والسعادة وإجازات والتخطيط للزيارات والفسح،بينما الثاني هو كيف نبقى أحياء بعيدا عن قصف الاحتلال،لا استعدادات لصلاة العيد أو تزاور الأهل والأصدقاء،أو الفسح، حيث لم يعد هناك مساجد يصلى فيها صلاة العيد أو مواقع آثرية يزورنها فقد دمر الاحتلال ما يزيد عن 200 موقع آثرى بالقطاع أو حدائق ومنتزهات التي قصفها الاحتلال، أو منازل يزورون فيها عائلاتهم.
آلة حرب مجرمة حصدت الأخضر واليابس ودمرت كل شئ أتت عليه في غزة صاحبة المساحة الجغرافية الصغيرة والكثافة السكانية الكبيرة.
غزة تقطر دماً وهي تذرف الدموع على شهداءها الأبرار وتودع الأطفال بدلاً من أن ترتسم على وجوههم الابتسامات.
في غزة بات ثوب العيد كفناً وحلوي العيد قنابل ولسان حال أهلها المكلومين على فراق فلذات أكبادهم حزنهم على دمار بيوتهم “بأي حال قد جئت يا عيد”.
جرح مفتوح،وعدالة شائخة،وضمير إنسانيّ كسول وضرير..لا يفعل غير أن يعدّ حصيلة الخراب ويتأفّف من وفرة دماء الموتى!..وأيضا : ينتظر.
ضجرت ذاكرة التاريخ.ضجر الشهود.ضجرت الأسلحة والقوانين والمذاهب والسماوات،وضجرت أرواح الموتى..لكن-وحدها-شهوة القاتل إلى مزيد من الدم..لم تضجر!
الدّم يشحذ شهية الدّم..
وعلى شاشة الملأ الكوني،تترقرق الدّمعة الأكثر إيلاما وسطوعا في تاريخ صناعة العذاب،وتعلو صيحة الضمير الأعزل المعطوب،دون أن تُسمَع..!
ودائما : ثمة شهداء يسقطون..ودائما خلف القاتل،ثمة حلفاء وقضاة وجيوش..وخلف الضحية..العماء والصّمت..وخلف العماء والصّمت..شعب يقيم أعراسه على حواف المقابر: أعراس مجلّلة بالسواد ومبلّلة بالنحيب..أعراس دم.
لكن..ثمة أمل…
ثمة أمل ينبثق من دفقات الدّم ووضوح الموت..أمل يتمطى عبر نباح الرشاشات وعويل المدافع..
وحده ” الغزاوي” اليوم..بإمكانه أن يحمل بين ضلوعه أملا وضّاء ينير عتمات الدروب أمامه..
ووحده بإمكانه أن يقايض سخط الجلاّد الحاقد بكلمة الأمل الغاضب..فقد علّمنا التاريخ أنّه في أحيان كثيرة يمكن للأمل الأعزل أن ينتصر على جنون القوّة المدرّعة..كما علّمنا كذلك،أنّ السفّاح-بما يريقه من دم-يحدّد الثمن النهائي لدمه.
لهذا سيذهب “الغزاوي” بأحلامه من حافة الموت إلى حافة الحياة حيث سيرى خلف دخان الجنون وجلبة القوّة : علمَ فلسطين وشمسها ونخيلها وبساتينها وسماءها..
وتحت سمائها تلألأ الرنّة السخيّة لفرح الإنسان.
ما أريد أن أقول ؟
لم يأت عيد على المسلمين في العقود الأخيرة أصعب من عيد الفطر المنتظر يوم الأربعاء القادم،حيث ستكون صورة ما حدث في غزة خلال الأشهر الستة الماضية ماثلة أمام الجميع بكل ما بها من وحشية وجرم عظيم، وهذا من شأنه أن يستحضر كل التحديات والنكبات التي عاشتها وتعيشها الأمة العربية خلال القرون الأخيرة وما بها من ضعف وهوان.
ورغم كل الألم المتوقع تداعيه صبيحة يوم العيد فإن فلسفة العيد كما يقرها الإسلام تكمن في فكرة الفرح، في أن يفرح الإنسان مهما كانت ظروف الحياة صعبة وقاسية، ومهما كان واقع الأمة العربية والإسلامية مريرا؛ فدور العيد في فلسفة الإسلام أن يحيي في الإنسان رغبة الحياة ويجددها، أن تحضر أمامه صورة الحياة لا صورة الموت؛ لذلك فإن الإسلام يفضل في يوم العيد زيارة الأحياء فهي أولى من زيارة الأموات في المقابر كما تجري العادة في الكثير من البلاد العربية.
وإذا كان المسلم قد اجتاز مشقة الصيام وممنوعاته وحصل على جائزته الدنيوية والمتمثلة بيوم العيد،فإن الله سبحانه وتعالى قادر على أن ينزل على هذه الأمة من الأعياد حتى ترضى حينما تستطيع أن تجتاز محنها وتحدياتها بالعمل الحقيقي المرتبط بالعلم وتجاوز الوهم والجهل إلى مساحة النور والضياء.
وإذن؟
إن فلسفة العيد إذا،كما هي في الفكر الاجتماعي للمجتمعات الإسلامية يتمثل في معان عميقة أكبر بكثير من المعاني السطحية التي قد يعتقدها البعض،فإضافة إلى أنه لحظة مهمة بالشعور بالتكافل وزرع البسمة رغم التحديات والمآسي فإنه يوجه حركة الزمن نحو المستقبل للتأكيد على أن الحياة مستمرة ولا يمكن أن تقف بسبب أي خطب مهما كان عظيما ومهما كان تأثيره كبيرا على أمة بأكملها،كما أنه يؤكد أن الفرج آت لا محالة ليكون يوم عيد ويوم نصر عزيز مؤزر.والعيد كما قال ذات يوم مصطفى صادق الرافعي : هو المعنى الذي يكون في اليوم لا اليوم نفسه.
ختاما : يستقبل عالمنا العربى اليوم عيد الفطرالمبارك وسط حالة من الحزن والاسى،ملأت بها القلوب واشعلت بها الصدور آلة الحرب الاسرائيلية المجنونة،التى مازالت توغل فى ارتكاب المجازر بحق الاشقاء الفلسطينيين فى غزة..صحيح ان المقاومة الفلسطينية فى حالة صمود اسطورى أمام ذلك العدوان الاسرائيلى الغاشم،ولكن المتابع والمدقق فى حجم المجازر وحالة الدماراللذين تخلفهما آلة الحرب الاسرائيلية،يجدهما يفوقان كل تصور،وهو ما اثارالغضب الشعبى وجعله يتخطى منطقتنا ويمتد الى العديد من العواصم الاجنبية، فالقادم من غزة-عبر شاشات الفضائيات-وما تضخه وكالات الانباء “يصدم” الى ابعد الحدود كل دعاة الديمقراطية والمنتصرين لحقوق الانسان، و”يصفع” بكل قسوة وجوه كل الطغاة واعداء الانسانية،من المتعاطفين مع العدوان الاسرائيلى،فيما لا تلوح بالآفاق اية آمال لوقف تلك الحرب المجنونة، بعد ان فشلت كل المبادرات والاجتماعات الاقليمية والدولية فى لجم آلة الموت الاسرائيلية، واعادة الهدوء الى غزة الذبيحة الصامدة،التى قدمت حتى الان آلاف الشهداء وأعداد لا تحصَى من الجرحى..
وتبقى غزة..عاصية على الغزاة..وحفاة الضمير..
هنا غزة..ستستقبل العيد وهي تنزف دماً وتودع الأطفال إلى مثواهم الأخير في يوم فرحتهم التي انتظروها أياماً وشهور..كل عام والنصر حليفهم فعيدهم عيد الشهداء والتضحية والصمود والانتصار.
وحتى لا يمضي يوم العيد ونحن نردد قول المتنبي:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم بأمر فيك تجديد
فلا بد أن نستلهم فلسفة العيد حتى نعيشه وحتى نشعر بقدرته على تجديد حياتنا وتذكيرنا بقوتنا وقدرتنا على تجاوز كل المحن والتحديات وتمسكنا بالأمل دائما.