صالح عوض
أمد/ عندما حلت الطائرة بالرجل المشرد من بلاده والمطرود من كل الدول المجاورة وفيما هو على درجات سلم الطائرة أعلن عن غلق سفارة الكيان الصهيوني.. وعندما كان ياسر عرفات أول من يصل طهران مهنئا ومباركا انتصار ثورة كان لها أعمق الصلات بالثورة الفلسطينية عانق “الرجل” وأخبره بأن أمريكا في وضع مأساوي وأن أصدقاءها من الحكام يرتجفون، حينها ابتسم الإمام -الذي لم يعرف عنه ذلك- و أعلن إن خمس نفط إيران لفلسطين وان السفارة الصهيونية بكل ما تملك هي ملك للثورة الفلسطينية،وأن إيران دولة مواجهة، و يجب ان تحول فورا الى سفارة لفلسطين.. كانت انطلاقة مبهرة للجميع ان تصبح قضية فلسطين هي الناظم لكل السلوك السياسي الإيراني بعد أن كان الشاه حليف الكيان الصهيوني، ورفع الخميني كفه لن نسمح بضياع فلسطين وان الكيان الصهيوني غدة سرطانية يجب اقتلاعها..
إيران بين تحول الأدوار:
لم يتردد الفلسطينيون في عهد الشاه وأثناء حكمه في استقبال الثوار الإيرانيين في قواعدهم العسكرية في جنوب لبنان ومكاتبهم في بيروت، وكان الإيرانيون يحظون باحترام فلسطيني فائق واهتمام من قبل قائد الثورة الفلسطينية، الذي عاملهم نفس معاملة الفلسطينيين في صفوف الثورة الفلسطينية، ولقد كانت مراهنة كبيرة أقدم عليها الفلسطينيون وعندما استشهد المفكر الإيراني الكبير علي شريعتي أبنّه ياسر عرفات في جامعة بيروت العربية وكان ذلك بمثابة تحديا عميقا لنظام الشاه.. واستمر تدفق الشباب الإيراني الثوري الى قواعد الثورة وكان الشيخ رافسنجاني على رأسهم وقد أطلق على ولده البكر اسم ياسر تيمننا بياسر عرفات وكذلك محمد منتظري ابن العالم الإيراني الكبير الشيخ آية الله منتظري نائب الامام الخميني.. كانت علاقة عميقة وجبهة واحدة الأمر الذي كان يعني أن انتصار ثورة إيران إنما هو مقدمة لانتصار فلسطين ولقد كانت لحظات حميمية عندما دوى صوت المتظاهرين في شوارع طهران لفلسطين وكان استقبال الإيرانيين الأسطوري لياسر عرفات” خمس ملايين مستقبل” في مشهد حيث مقام الإمام الرضى أبرز سمات تلك المرحلة.. وتقدم الشباب الذين تدربوا في قواعد الثورة الفلسطينية الصفوف وأصبحوا هم قيادات الحرس الثوري الأمر الذي حافظ على تعمق القضية الفلسطينية في أرواح مسئولي المؤسسات الإيرانية… انتصرت الثورة الإيرانية فلم ينس عرفات ان يرد على بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي الذي هدد الفلسطينيين في سنة1978 بالخروج من الخريطة السياسية.. تذكر ياسر عرفات ذلك فرد بصوت عال في احد مهرجانات التأييد في جامعة بيروت وكان قوله واضحا واعيا:: باي باي للمصالح الامريكية في المنطقة.. نحن وإيران لسنا ثورتان صديقتان ولا قائدان صديقان انما ثورة واحدة بقيادة الإمام الخميني.. لقد كانت أمال الفلسطينيين كبيرة وكانت التحديات أمام إيران وكيفية الاجابة عليها معقدة كثيرا.. ولعل الموقف الفلسطيني المتميز هو من عجل القرار الأمريكي الصهيوني بضرورة إخراجها من محيط فلسطين.. من أخر معاقلها في لبنان.. فيما فرض على الحليف الجديد معركة مجنونة قاسية ..
ثماني سنوات من الحرب المفروضة التي روج لها الغرب وأدواته في المنطقة دفعت بتأجيج النيران بين العراق وإيران بعد أن مزق العراقيون اتفاقية الجزائر”1975″ التي تنظم العلاقة بين البلدين.. كان لهذه الحرب الأثر القوي على دور الثورة والدولة الوليدة التي أصبحت منهكة في حرب مفتوحة مع حصار دولي شامل وشيطنة غربية وحرب طائفية مجنونة، ولقد أظهر الخميني ورجاله عزيمة جنونية في الصمود فلقد سقط الفوج منهم اثر الفوج من كبار قيادة الثورة، وانتشر الإرهاب المدعوم إقليميا ودوليا في كل مكان في إيران وفقدت الثورة قيادات جوهرية.. انتهت الحرب بخسارة العراق وإيران خسارات عديدة وفادحة.. فكما وجد العراق نفسه مطالبا بتسديد الديون لدول الخليج التي كانت تؤزّه أزّا للحرب ضد ايران، الامر الذي استفزه لحرب ثانية أودت به، كذلك وجدت إيران نفسها إمام مرحلة ما بعد الحرب تلملم جراحها وتنطلق لدورها المنبعث من رسالتها كثورة.. ولكن في حلقة مغلقة من العقوبات والحواجز التي تشكلت اثناء الحرب.
لقد كان الجهل والتخلف في الأمة سببا في جعل الإسلام مطاء للمشاريع الاستعمارية فلقد كانت الإدارات الغربية والأمريكية بالذات تشغل الإسلام والمسلمين كجنود في معاركها الدولية والإقليمية كما حصل في أفغانستان وسواها.. لقد كان الفكر الإسلامي الشيعي والسني بشكله التقليدي يمارس دوره ببشاعة حيث أصبح ليس فقط أفيون الشعوب بل والذي سخرها لتكون شعوبنا قطعان عبيد للأمريكاني.. فكان الإسلام مستعمرا من قبل القوى الشيطانية الكبرى هنا كانت مهمة أساسية أمام الثورة الإيرانية أن يتم تحرير الإسلام من الاستعباد الأجنبي فكان الخميني هو أول من مارس عملية الفصل القصري والقهري بين الإسلام والاستعمار على المستوى العالمي.. لم يكن اختلاف الخميني مع دولة من دول الاستعمار بعينها بل معها جميعا ولم يكن اختلافه سياسيا فقط بل وثقافيا ومزاجيا وروحيا واقتصاديا وان كان يرى في إدارة الولايات المتحدة وكما أطلق عليها الشيطان الأكبر.. وفي التفاصيل هز الإمام الخميني المقولات الشيعية هزا عنيفا واسقطها بتكوين دولة تأخذ بموروث التراث الإسلامي السياسي مبنية على الشورى والبيعة بعيدا عن فلسفة الانتظار والتقية التي القى بها جانبا، ووجه طعنة نجلاء للطائفية والتكتلات على أسس التفرقة، هنا أدرك المحللون والدارسون الاستشراقيون والاستشرافيون انه ان قدر لهذا الطرح الايديولوجي ان يتحرك بسلام فانه سيغير ملامح العالم وسيتمكن من تحريك أمة الوسط من جاكرتا الى طنجة هنا انطلقت كل السهام للطعن في الثورة وقامت كل السدود أمامها والحشد ضدها بكل الوسائل داخليا وخارجيا الامر الذي كاد يعصف بها أكثر من مرة.
ظلت فلسطين في كل التقلبات هي الثابت الحاضر بقوة حتى في أسوأ مراحل الحصار وأقصاها لم تتخلف ايران عن إعلان موقفها صريحا بلا تردد انه يجب ازالة الكيان الصهيوني وفي الوقت نفسه لم تغلق ابوابها امام الفصائل الفلسطينية المقاومة دعما ماديا وتدريبا واحتضانا.. ولقد ابدت الثورة استياء من القيادة الفلسطينية بسبب الموقف الوسطي الذي اتخذته من الحرب العراقية الإيرانية الا انها بعد اتفاقية اوسلو بلغ الاستياء ذروته وقد نشط كثير من قيادات ايران لدعم الفصائل العشرة ساكنة دمشق لتجاوز القيادة الفلسطينية.. لم تتوقف ايران عن دعم هذه الفصائل ولئن كانت السياسية تقتضي عدم التفريط بأي فصيل فلسطيني وعدم استعداء اي من الفرقاء الفلسطينيين الا انه لا يمكن تسجيل أي تقاعس عن تأدية الواجب نحو فلسطين رغم الظروف القاسية.
طوفان الأقصى فرصة تاريخية لايران:
في الثلاثين سنة الأخيرة اختلط الأداء السياسي الإيراني بعضه غطى على بعضه وأصبح من الصعب على أصدقاء إيران تبرير بعض مواقفها أو على الأقل فهم ذلك لاسيما في الوضع العراقي والسوري والأفغاني فلقد كانت الاماني عظيمة بان تظل إيران بعيدا عن الاصطفاف الطائفي الذي كان يرى في بعض المواقف الايرانية في دعمها لقوى شيعية متخلفة وجاهلة بل وأحيانا مرتبطة بالخارج.. وفي هذه المرحلة خسرت إيران كثيرا من القبول الشعبي الإسلامي العام وأصبحت في محل اتهام من قبل الكثيرين بانها ذات مشروع طائفي او مشروع قومي فارسي.. ولم يشفع لها دعمها المتواصل للمقاومة الفلسطينية التي تؤكد كل مرة انه لولا دعم الثورة الإسلامية لما وصلت قدرات المقاومة الفلسطينية الى هذا المستوى.
الا انه دوما كانت هناك فرصة لايران للخروج من ذلك المستنقع.. وتصحيح الاتجاه حسب راي البعض او اظهار حقيقة الموقف حسب راي الأصدقاء.. انها فلسطين محل إجماع الأمة وعشقها وارادتها.. انها فلسطين التي لا خلاف عليها فهي ناظم وحدة الأمة معها وفي حضرتها تتساقط كل الدعوات العرقية والنعرات الطائفية.. انها فلسطين القداسة والسلام والطهر والسمو والعلو والارتفاع الى وجه الله الكريم عبر معراجها المقدس.. انها فلسطين التي لم تتخل عنها ايران الثورة لحظة وان كانت قد انشغلت بملفات اخرى أخطات في بعضها وتخبطت في بعضها الآخر فهاهي الفرصة التاريخية لتعود الثورة الإيرانية لألقها من جديد وبخبرة أعمق.
نعم هي الدولة الإسلامية الوحيدة التي لا تكتفي بالإعلان عن تأييد الشعب الفلسطيني في حقه وتأييد مقاومته بل هي البلد الوحيد في عالمنا الإسلامي من يعلن عن دعمه بالسلاح والمال والشباب والخبراء لمقاومة الشعب الفلسطيني وهذا الموقف ليس من باب الترف والتمثيل ان إيران تدفع شهداء من خيرة قادتها ورجالاتها الكبار في هذا الطريق وهذا يعبر بوضوح عن إيمانها بالقضية الفلسطينية وبإيمانها بان دعم فلسطين ومقاومتها مسالة حياة او موت.. وهنا كان شرطها وكلمة سرها مع كل القوى المسلحة التي اقتربت منها ان العدو الصهيوني هو العدو المركزي وان فلسطين هي البوصلة.. كان ذلك شانها مع الحزب في لبنان ومع الحوثي في اليمن ومع فصائل المقاومة في العراق بحيث اصبحت كل هذه المجموعات المسلحة جاهزة لاي حرب مع العدو الصهيوني وبالفعل كانت هذه المجموعات هي من انطلق يقصف ويساند بالرصاص فلسطين ومقاومتها في حين تجمدت كل جيوش العرب والمسلمين الاخرى.
لحظة ماقبل العاصفة:
بحركة خطيرة مغامرة مقامرة ضرب الكيان الصهيوني القنصلية الايرانية في دمشق.. لم تستطع الدولة المضيفة ان تحقق الأمن لضيوفها الرسميين ولكن لن يقبل أصحاب الحق الأساس التنازل عن حقهم وهنا تظهر عداوة الأمريكان والغرب لإيران بحيث تصدت لأي محاولة إيرانية باستصدار موقف دولي ضد العدوان على مؤسسة دبلوماسية.. بالعكس تماما استنفر قوى الشر في الغرب معلنة مساندتها للكيان الصهيوني بل اتجه بعضها لتشكيل غرفة عمليات مشتركة مع الجيش الصهيوني.
أيام طويلة مرت على الحادث-المقامرة.. وفيها استنفرت قوات الجيش الصهيوني وكذلك بوارج وقواعد امريكا.. الاتصالات مستمرة والرسائل متواصلة وايران تؤكد ان عملا من هذا النوع يستوجب العقاب الذي يعيد العقل لقادة الكيان الصهيوني.. ايران تحرك صواريخها التي أبدعت في صناعتها وتجهز آلاف الطائرات المسيرة التي يمكنها تغطية سماء فلسطين لا تبقي منه الا سبيل المعراج بدعوات الأمة بنصر مؤزر على الكيان الصهيوني.
ما تحقق حتى الان منذ الضربة المقامرة انجاز سياسي إيراني كبير وقد عرض على إيران إغراءات كثيرة و بدائل مشرفة للموقف الإيراني الا انه لا زال يمارس التخويف والضغط لانجاز المزيد فان لم يحقق المزيد الذي يكون بمستوى الضربة المقامرة فان ردا ايرانيا سيأتي بحجم محسوب وان كان في حقيقة الامر لقد سبق الرد الايراني منذ زمن طويل فالرد اليمني واللبناني والفلسطيني لم يكن له ان يكون لولا دعم ايران ومالها وسلاحها وخبرائها..
بلا شك سيكون لايران شأن كبير بعد هذه الازمة سواء كانت مواجهة ام لا.. ايران ستشعل الارض نارا في وجه الوجود الاجنبي في المنطقة في العراق وسورية ولبنان واليمن والخليج العربي.. لاشيء بعيد عن صواريخ ايران وصواريخ حلفائها الذين لن يقبلوا خيانة لايران او نكران جميل.. اما ان قدرت الولايات المتحدة حجم الخطر فنهجت نهجا سلميا فليس اقل من التسليم لايران بانها القوى الاقليمية التي يجب اخذ رايها في اي تشكيل سياسي ويعتد بموقفها في التحركات السياسية والتسويات الاقليمية.. انها فلسطين تعطي ايران بركات تنقذها من وحل افغانستان وسورية والعراق.. انها فلسطين بكل صفائها ونقائها وسموها ووضوح عدوها.. والله غالب على أمره.