د. حسين الديك
أمد/ إن ما تشهده الوليات المتحدة الأمريكية في هذه الأيام من تحركات طلابية شملت عدداً كبيراً من الجامعات الأمريكية وخاصة الجامعات العريقة والتي لها تاريخ حافل بالإنجازات العلمية والفلسفية على الصعيد العالمي، والتي لطالما شكلت نموذج يحتذى به في الحريات العامة، وقد كان للتظاهرات التي أنطقت من جامعة كولومبيا في نيويورك وانتقلت الى باقي الجامعات كحركة احتجاجية ضد سياسة الولايات المتحدة الأمريكية المؤيدة للاحتلال الإسرائيلي حتى تجاوز عدد الجامعات التي امتدت اليها الاحتجاجات اكثر من (70)جامعة وشكلت تحدي حقيقي لإدارة الجامعات في كيفية التعامل معها.
وقد تميزت تلك الاحتجاجات والمظاهرات أنها شملت غالبية الولايات الأمريكية عابرة للأحزاب السياسية وللولايات الديمقراطية والجمهورية فقد انطلقت من أهم قلاع الحزب الديمقراطي نيويورك وكاليفورنيا ولكنها في الوقت نفسه امتدت الى قلاع الحزب الجمهوري ولاية تكساس ، وامتدت على طول الولايات في الساحل الشرقي الأمريكي ومن ثم ولبيات الساحل الغربي و ولايات الوسط والجنون بمعنى أنها اخترقت كل الولايات على اختلاف توجهاتها ديمقراطية أو جمهورية وكان لها صدى كبير في التأثير في المجتمع الأمريكي.
وقد شكلت الدبلوماسية الرقمية الشعبية عبر وسائل التواصل الاجتماعي المحرك الأساسي لتلك التظاهرات إذ فشلت الحكومة الأمريكية في السيطرة على الراي العام الأمريكي من خلال الإعلام التقليدي الموجه في الولايات المتحدة الأمريكية الذي يتبنى الرواية الإسرائيلية بشكل مطلق ومنحاز ولا يعطي أي اعتبار للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
تأتي هذ التظاهرات لتشكل ثورة في الوعي في المجتمع الأمريكي والتي سيطرت عليه دائما الرواية الإسرائيلية ، وشكلت هاجسا كبيرا للإدارة الأمريكية وللنخب السياسية الجمهورية والديمقراطية وللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية من ثورة الوعي لطلاب الجامعات الذي اصبحوا أكثر حساسية وتعاطفا مع الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني ولديهم معارضة كبيرة للدعم الأمريكي اللامحدود للاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، وان هؤلاء الطلاب سوف يكونوا بعد سنوات قليلة في مركز صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية وهذا يشكل مصدر قلق كبير للوبي الصهيوني الأمريكي وللنخب السياسية والاقتصادية الأمريكية المتحالفة معه تاريخيا.
وتشكل تلك المظاهرات الطلابية في الجامعات مؤشر قوي على تآكل السردية التقليدية القائمة على تعليل أخلاقي استراتيجي للعلاقة التقليدية بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وهو تحول كبير وواسع في المجتمع الأمريكي وفي العلاقة التقليدية القائمة بين البلدين والتي ساترت لعقود طويلة استنادا الى ادعاء القيم المشتركة ما بين الجانبين.
لطالما تصدرت الديمقراطية الأمريكية النموذج الغربي الذي يحتذي به في ارساء قواعد الحرية الفردية وخاصة حرية الراي والتعبير والتجمع السلمي والعمل السياسي و المواطنة والمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات استنادا الى مبدا سيادة القانون وسمو الدستور الامريكي فوق كل الاعبتارات ، وعلى صعيد السياسة الخارجية كانت هناك مطالبات دائمة من الولايات المتحدة الأمريكية لدول العالم باحترام حرية الراي والتعبير والحق في التجمع السلمي وإصدار وزارة الخارجية الأمريكية تقارير سنوية حول حالة حقوق الإنسان في الكثير من المناطق في العالم وتركز على الانتهاكات الجسمية التي تقوم بها الأنظمة السلطوية ضد مواطنيها في قمع الحريات العامة والفردية.
ان حالة التحول الكبير التي حصلت في الوضع السياسي الداخلي في الولايات المتحدة الامريكية تعود على عدة عوامل نمت وتطورت عبر سنين طويلة حتى وصلنا الى هذه الحالة السياسية المعقدة التي نعيشها اليوم ، مما يلقي بظلاله على الانتخابات الأمريكية القادمة في 7/11/2024م والتي كما يبدو سوف تكون انتخابات تاريخية بسبب التنافس الكبير بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي إضافة الى وجود مرشح مستقل للرئاسة هو روبرت كندي، فان شريحة الشباب تشكل الخزان الانتخابي للحزب الديمقراطي تقليديا في الانتخابات والتظاهرات التي تنتشر في الجامعات الأمريكية تؤدي الى خسارة الحزب الديمقراطي لقاعدته الجماهيرية والفئة الأقوى في قاعدته الانتخابية ، إضافة الى ذلك فان تلك التظاهرات الطلابية تعبر عن عدم رضى الجيل الشاب من سياسة النخب السياسية والاقتصادية الأميركة التقليدية .
إن هذه التظاهرات والتي تشكل ثورة في الوعي الأمريكي تتشابه الى حد كبير مع حصل في العام 1968م من مظاهرات مناهضة للحرب الأمريكية في فيتنام والتي أدت في النهاية الى الانسحاب الأمريكي من فيتنام وتوقف تلك الحرب ، وان حالة الاستقطاب الشديد في المجتمع الأمريكي ما بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري تلقى بظلالها على الحالة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية مما يفرض على الولايات المتحدة المزيد من الضغوط من اجل تبني سياسة اكثر توازنا واعتدالا في التعاطي مع القضايا الدولية واهمها قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والعمل على تغيير استراتيجية التعاطي مع هذا الملف من إستراتيجية إدارة الصراع الى استراتيجية حل الصراع .