أمد/
الدبلوماسية فن ناعم، وعلم ومهارات ومعرفة، وضرورة قصوى في إدارة العلاقات الدولية، وحماية المصالح الوطنية، ورعاية الدول مواطنيها في خارج الوطن، وتعمل من خلال التواصل والحوار والتفاوض، وبناء الجسور وتشبيك العلاقات الثنائية، فضلاً عن المتعددة الأطراف.
وقد تتحول الدبلوماسية إلى آلية خشنة حين تمارس الضغوط، أو التدخل في شؤون الدول الداخلية، وكان يُطلق عليها في القرون الماضية اسم «دبلوماسية البوارج الحربية»، لكنها في كل الظروف تبقى آلية مفضلة وسلمية يصعب الاستغناء عنها، وخاصة في ظل أوضاع معقدة تحتاج إلى مهارات لازمة لتدوير الزوايا، ومن أوصافها في عقود سابقة، وخاصة دورها في صناعة السلام، اسم «الدبلوماسية الوقائية».
اليوم، ومع تبدل طبيعة القوة في البيئة الدولية وثورات التقانة والاتصال والمعلومات، شهدت مهنة الدبلوماسية المعاصرة، وعلومها ومهاراتها، تحولات جذرية في أدواتها وقواعدها ومعارفها ووظائفها.
لم تعد للدبلوماسية أسوار أو أبواب، تراجع التقليدي فيها، وصارت تتعامل مع الداخل في بلدها، إقناعاً وتأثيراً، مثلما تتعامل مع الخارج، تقتحم أسوار المجتمع في البلد المضيف من غير استئذان، لتخاطبه مباشرة، تؤثر فيه، وتتعامل مع كل مفردات العولمة، من اقتصاد وتجارة وحقوق إنسان وثقافة وفنون وتغير مناخ وجريمة منظمة وغسل أموال..الخ. وتباشر أعمال الحوار والتفاوض الثنائي والمتعدد الأطراف، وتحرص على تجنيد الدبلوماسي المتخصص، والمبادر، والمتفاعل مع الثقافات المتعددة، والقادر على الاستشراف والتفكير خارج الصندوق.
تدرك الدبلوماسية المعاصرة مدى أهمية التدريب والتعلم المستمر واستقطاب النخبة المميزة في مجتمعاتها، ويخضع المرشح للوظائف الدبلوماسية لامتحانات عسيرة، بما فيها الامتحانات السيكولوجية.
ما عادت الدبلوماسية مجرد وظيفة، مثل غيرها من الوظائف الحكومية الروتينية، إنها رسالة وطنية، ومن نوع مميز، ولا مكان فيها للهواة، ولا لطالبي الرفاه والراحة في عواصم مرفهة، ولا لعشاق حفلات الاستقبال وركوب السيارات الفارهة ذات الحصانة.
وما أكثر ما كانت تواجهني أسئلة من الجيل الجديد من الدبلوماسيين العرب حول معنى الدبلوماسية في هذه الأزمنة المتغيرة، وبخاصة حول الدبلوماسية الثقافية وهل الدبلوماسي هو مجرد «ساعي بريد». وكان ردي دوماً بتساؤل آخر، وهو: كيف تستطيع دبلوماسية منغلقة، وغير عارفة وواعية بالمتغيرات والتحولات في البيئة الدولية، وغير مدركة لمصالح بلدها الحيوية، أن تتفاعل مع الآخر، وأن تقلل الخسائر وتعظم المكاسب، وتعزز مصداقية الدولة ونفوذها في الخارج؟
لا تكفي الجهود الدبلوماسية التقليدية في الساحة الدولية، وإنما تحتاج هذه الدبلوماسية إلى دبلوماسية أخرى موازية ومساندة، هي الدبلوماسية الثقافية التي هي جزء من الدبلوماسية العامة. ومضى الزمان وولّى، حينما كان للبعثات الدبلوماسية ملحق ثقافي، وتنحصر وظيفته في متابعة شؤون الدارسين المواطنين في الجامعات الأجنبية.. أما اليوم، فإن الدبلوماسية الثقافية هي القوة الناعمة، المتمكنة من تقديم الدولة والمجتمع بصورة مقنعة وجذابة وملهمة، بنظمها وقيمها وقطاعاتها الإنتاجية والإنسانية والعلمية وفنونها وأنماط حياتها، ومن خلال أدوات ناعمة، كالفنون بأنواعها المختلفة، وببرامج التبادل العلمي والثقافي والشبابي، وبالحوارات التي تعزز التفاهم المتبادل، وتدرأ الصراعات والنزاعات، وتشيع ثقافات احترام التنوع والاختلاف، وتقدم إلى العالم مجتمعها كمجتمع رائد في قطاعات تنموية ومعرفية وعلمية، وآمن ومتماسك ومتسامح ومنفتح، وله تقاليده الثقافية وتراثه الإنساني.
نعم، إن الدبلوماسية الثقافية، كمفهوم موجود منذ قديم الزمان، مارسها التجار والرَّحالة والمستكشفون والسيَّاح وطلبة العلم والهجرات والكتب..الخ، وها هي اليوم بأدوات جديدة، وقد تكون مرتبطة عضوياً بالأجهزة الحكومية، وقد تكون موازية لها، وتحمل جرعات قوية وجذابة من الثقافة بمختلف تعبيراتها، وتتميز بقدرتها على اقتحام الجدران والأسوار، وفي إطار الحوار بين الثقافات المختلفة، وبناء أسس للتعايش السلمي بين الشعوب، وبث التفاهم والفهم المتبادل. ويشارك في هذه الدبلوماسية الثقافية أكاديميون وأدباء وفنانون وإعلاميون ورجال أعمال ونقابيون ومجتمع مدني وجمعيات نسائية ونشطاء مجتمعيون.
ولنتذكر أهمية وتأثير تلك المؤسسات الثقافية والتعليمية التي نشرتها دول كبرى في شتى بقاع الأرض، مثل معاهد غوته الألمانية، والمعهد البريطاني، وروابط الثقافة الفرنسية، ومحطات إذاعية وتلفزة، فضلاً عن أدوار مؤثرة وجذابة من خلال «هوليوود» الأمريكية، و«بوليوود» الهندية، والمسلسلات التلفزيونية التركية، وفروع لجامعات ومعاهد ومؤسسات ثقافية دولية.
الثقافة هي ما نتذكره بعد نسيان كل شيء، والدبلوماسية الثقافية هي الخطوة الأولى في سباق السباحة في أعالى البحار الدولية.