أمد/
مشكلة بعض الكتّاب الفلسطينيين- وربما العرب- أنهم يتحدثون عن أسلافهم الموتى بما لم يتحدثوا عنهم وهم أحياء، كذلك فعلوا مع أحمد دحبور، ومع زكريا محمد، وبشيء قليل مع سليم النفار- أحد شهداء الثقافة في قطاع غزة خلال الحرب الحالية (2023/ 2024)، وأفاضوا بذلك مع حسين البرغوثي. وخاصة البرغوثي الذي يمجدونه بطريقة وحي نبوي عبقرية إعجازية لم تكن لتخطر على باله لو كان حيا، بل ربما لشبع ضحكا وهو غير مقتنع بما يقولونه عنه، المشكلة لا شيء ينفي هذا فلا دليل عليه إلا الحدس، وبالتالي فلا شيء يؤكده أيضاً، إنما ما يفضحه هذه اللغة العالية الإنشائية التي تؤسطر الراحل في إطار من الصورة المهولة البعيدة التي لا تُهشَّم عبر مقولات وأحكام ناجزة وجاهزة، قاطعة، كأنها حبل الله المتين. أحكام تتعارض وما يدّعونه من قلق اليقينيات الوجودية التي كانت منطلق حسين البرغوثي كما يحبون أن يصفوه؛ صوتا ما بعد حداثي.
روائي صديق، قرأت رواياته كلها، وكتبت في أكثرها، استفاض في إحدى تلك الروايات بالحديث عن حسين البرغوثي، وأعدّه معلما، وصوّره بصورة نبيّ، بدا الروائي مأخوذاً إلى درجة محزنة بالراحل. وحتى لا أفهم خطأً، فأنا لا أعرف حسين البرغوثي، ولم ألتق به نهائيا. لكنني أعرف كتبه، كما أن البرغوثي لا يتحمل تصرفات زملائه الكتّاب في مدحه بهذه الطريقة.
إن هذه الطريقة من الكتابة توحي بالمجانية الحادة للكتابة عن الراحلين عموما، ما يعني أنها تلقي بظلالها على الحالة الثقافية للمشهد الفلسطيني المتشظي، الذي لا تحكمه رؤيا أو أهداف محددة على الرغم من أننا الأحوج إلى هذه الأهداف، كوننا شعبا تحت الاحتلال، فأين هي ثقافة المقاومة كما ينبغي لها أن تكون؟ لا أظنها موجودة الآن في كل ما يُكتب، والمشاريع الثقافية الذاتية تبقى تدور في الفلك الشخصي والمنافع المحدودة في أثرها، ولا تشكّل رافعة لقضية فلسطين الأساسية، وهي الانعتاق من ربقة الصهيونية المجرمة.
أظنّ، أن الكاتب الفلسطيني يعمّق أزمته الشخصية وهو يمارس هذا الدور (مجانية المدح والكتابة)، فلماذا لا يُوضع البرغوثي- ومعه براغثة آخرون- ودحبور والنفار وكثيرون غيرهم مثلا في إطار من الدراسة الواقعية دون هذه اللغة الممجوجة القاتلة؟ لماذا يتجاهلون الأحياء الأدباء الفاعلين ويغرقون في تربة الراحلين؟ ألأن الراحلين في مأمن فصدقتهم فعل منجز وكامل ولا شيء ينقضها، ولأن الأحياء لا يؤمن شرّهم وانقلابهم؟ هل يفكر الأدباء بهذه الصورة؟ نعم إنهم يفكرون بأكثر من هذا. ما دليلي على ذلك؟ لا شيء غير اللغة وهذا الحدس، فأنا كذلك “لا أصدق غير حدسي”. أصدّقهم في حالة واحدة فقط؛ لو أنهم يكتبون بالطريقة ذاتها عن الأحياء، رفقاء الكأس و(الكـ …) والقلم!
شخصيا، أحببت قراءة كثيرين من الشعراء والكتاب، ومنهم أحمد دحبور على سبيل المثال، وكذلك لا أعرفه ولم ألتق به، وكنت شغوفا بمقالته “حديث الأربعاء/ دمعة الأربعاء” الذي كانت تخصصه له صحيفة الحياة الجديدة، وقرأت أعماله الشعرية كلها، ومعجب بما كتبه من أغانٍ وطنية تصدح بها إلى الآن أصوات كثيرة. أما حسين البرغوثي لم أكن أستسيغ لغته الشاذة، نعم لغته الشاذة التي لا تظفر منها بشيء، أحجيات وألغاز، قرأته بداية في مجلة الكرمل التي كانت تعد في وقتها نخبوية، وربما قرأته في مجلة الشعراء أيضا، لم يثر اهتمامي لأنني لم أستفد منه شاعرا ولا ناقدا. أحد مقالاته- وأغلب الظن أنه له إن لم تكن لزكريا محمد، إن لم تخنّي الذاكرة- ما زالت بداية المقال عالقة في ذهني درس فيه إحدى القصائد القديمة، وقال ما مفاده أن البيت الأول هو القصيدة وبقية الأبيات هي شرح للبيت الأول، وأظنه حاول التعميم على كل قصائد الشعر القديمة. كان أمرا مذهلا بحق، لم أفهم من المقال سوى هذا الحكم التأسيسي وصرت ألاحظه كثيرا واقتنعت به.
في مكتبتي كثير من كتب حسين البرغوثي، “حجر الورد” بطبعتين مختلفتين شكلا، وبينهما الكثير من الاختلاف في المضمون، واستغربت ذلك، الطبعة الأولى صدرت عام 2002 والثانية عام 2011. يصنف الكتاب على أنه نص ما بعد حداثي. لا أدري ما معنى حداثي وما بعد حداثي. لتدرك ذلك عليك أن تقرأ هذين المذهبين عند من اخترعهما لا عند البرغوثي وغيره، وتصلح الطبعتان لقراءة نقدية موازنة حسب النقد التكويني؛ لبيان هذه الاختلافات؛ منشؤها ودلالاتها.
كتب أخرى للبرغوثي في مكتبتي: “سأكون بين اللوز”، و”الضوء الأزرق”، و”الفراغ الذي رأى التفاصيل”، و”الضفة الثالثة لنهر الأردن”، و”مرايا سائلة”. وأكثر ما أثار فضولي لأقتنيه كتاب “الصوت الأخر- مقدمة إلى ظواهر التحوّل” صدر عام 2021، كتاب مترجم حوّله عبد الرحيم الشيخ، لاحظوا هذا التعبير الخارج عن المألوف، “حوّله” وليس ترجمه، هذا مستفزّ بطبيعة الحال، لا يدعو إلى البهجة عندي إطلاقاً، لم تستمر لعبة اللغة عند الشيخ بالوتيرة نفسها؛ فقال و”قدّمه”. ولو كنت محله- لا سمح الله- لقلت “حَمَله” تماهيا مع حوّله، ولتصبح جناسا ناقصا متماهيا مع اللعبة المشتركة المتواطأ عليها وهي الترويج بغريب المصطلحات واللغة، مع أن الشيخ خالف العرف قليلا فبدلا من أن يقول: “قدّم له” كما هو معروف على الأقل في الكتب التراثية، قال: “قدّمه”، فأسقط حرف الجرّ، لا لشيء إلا لكسر العادة والمألوف اللغوي. هل هذا الاستنتاج صحيح أو معقول؟ لا أدري. فما زال عبد الرحيم الشيخ حيّا- أطال الله بقاءه- وحده يعلم المغزى والدلالة.
الكتاب على أية حال كان مغرقا في اللاعاديته، أي أنه غير عادي، وهذا ليس مدحا ولا ذما إنما هو توصيف فقط، فالكتاب غير مفيد- لي على الأقل- لأنه غير مفهوم على الرغم من أنه محوّل/ مترجم بلسان عربي، لكنه لسان غير مبين، مبهم، هذا ما جعل كتابَ البرغوثي مُغرَّباً مرتين، غموضه وإبهامه الأصليين، وإبهام التحويل. أحد مترجمي إدوارد سعيد انتبه إلى أن كمال أبو ديب الذي ترجم كتاب الاستشراق جعل من الكتاب قلقا وغير سلس ففضل النسخة الأصلية الإنجليزية على النسخة العربية. يقول: “غير أن شيئاً في الترجمة ضل غريباً، أعني منغصاً، ولّد لديّ ضرباً من عند الارتياح”؛ لأنه أراد أن يقارب لغة سعيد في كتابه، فوقع في عدم الارتياح. عبد الرحيم الشيخ كان كمثل أبو ديب تماماً، ففي المقدمة التي أكلت أكثر من خمسين صفحة بدا غريب اليد واللسان عن القارئ.
الآن، وأصدقاء حسين البرغوثي يتذكرونه في مقالات المديح أقول لهم جميعاً: ماذا بقي من حسين البرغوثي ليستعاد؟ هل بقيت كتبه متداولة بين الجيل الجديد من القراء والكتاب؟ وهل حققت مركزيتها المطلوبة في وعي القارئ والكاتب؟ وهل فكرت وزارة الثقافة أو اتحاد الكتاب بإعادة طباعتها؛ لأن طبعاتها الأولى قد نفدت؟ هل يُدرَّس حسين البرغوثي في دوائر اللغة العربية في جامعاتنا، وبالأخص جامعة بيرزيت؟
شخصيا نادرا ما أرى لحسين البرغوثي أي حضور لدى القراء إلا عند من يطلق عليهم أدباء النخبة؛ غير المؤثرين أمثال البرغوثي، ليس لأنه نخبوي وعالي المستوى كما يظن الآخرون، بل لأن من يتعمد الإغراق في الغموض لا يجبر الآخرين على قراءته، وسيظل معزولا، مفردا كالبعير المعبّد. هذا بطبيعة الحال يختلف عن اللغة الأنيقة الأدبية الراقية التي تشد القارئ وتغرسه في تلافيف العمل الأدبي منذ الجملة الأولى وحتى آخر علامة ترقيم.
واحدة من صديقات الفيسبوك، كاتبة من غزة، أعلنت على صفحتها في الفيسبوك تعقيبا على ما نشره سليم بركات من نص في القدس العربي مؤخرا: “هذا فراق بيني وبينك”، لأسلوبه وما يعتريه من تعمّل وتكلف وتكرار أسلوبي فظّ. وبالفعل عدت إلى النص فلم أستطع إكماله؛ متسلسلة لغوية طويلة مرهقة، لا طائل من ورائها. فلمن نشرت الصحيفة هذا النص غير الصحفي؟ ولمن يكتب سليم بركات وأمثاله من أتباع مدرسة التكلف اللغوي المتعنت في بلوغ أقصى درجات الإغراق في اللا مفهوم من الكتابة؟ يا إلهي ما أطول هذا السؤال! وما أشدّ التواءه!
وعليه: فما هي القضية الجمالية الفنية أو الاجتماعية المجتمعية أو الفكرية الفلسفية التي كانت عصب كتب حسين البرغوثي؟ لو سألت عموم الكتّاب فإنهم لا يجيبون بوضح فذّ كما يجاوبون إذا ما كان السؤال متعلقا بنزار قباني مثلا. بكل تأكيد، سيبدؤون عوضا عن ذلك بتأليف سيمفونيات المديح التي تقول إن “حسين البرغوثي كاتب متمرد على اللغة”، وأنه كتب من منظور ما بعد حداثي. ولكن ما فائدة ما كتبه عمليا؟ ولمن كتبه؟ وهل بعد كل هذا يمكن أن يوصف بالمثقف؟
لا شك في أن مصطلح “المثقف” يجب ضبطه عند أبناء الصنعة الكتابية، فليس كل كاتب مثقفاً، ولو كانت كتبه بالعشرات، إنما المثقف هو من أراد التغيير، وكانت له قضية يدافع عنها، ويتحمل الأذى في سبيلها، وكل موتيفات الكتابة تتمحور حولها بوعي نقدي وفكري، وكان قريبا من الناس، وهو منهم، ويتحسس مشاكلهم، ويكتب عنهم وبلغتهم، أما اجتراح التراكيب المعقدة التي ليس لها مفهوم لغوي أو فكري محدد فإنها ليست بشيء، ولا تعني شيئا، ولا تجعل كاتبها مثقفا كبيرا، ولا صغيراً. إنما العتب على “الصغار” و”الكبار” الذين يأتون بعد هؤلاء الراحلين؛ ليعيدوا مدح الخواء، وتسويقه من جديد!
صحيح؛ أنني أحب كتابة الأصدقاء عن بعضهم بعضا، فهي من علامات الوفاء، لكن باعتقادي أنّ عليهم أنْ ينصفوا القراء بهذه الكتابة أيضا، لا أن تكون عاملا من عوامل التغريب، والبعد عن الهدف الأساسي لصنعة الكتابة ذاتها.