أمد/
– ما مدَى علم بعض سلفنا الصالح باللُّغة العَرَبيَّة؟ أ وليس من شروط المفسِّر، مثلًا، التبحُّر في علوم العَرَبيَّة والبلاغة؟ ولا سيما أنَّ معجزة «القرآن» الأُولَى والمعلَنة لُغويَّةٌ بلاغيَّة، لا فلكيَّة، ولا طبيَّة، ولا عدديَّة! [سألتُ مولانا (ذا القُروح)، بعد ما أثاره حول الموضوع في المساق السابق].
– لا جدال في ذلك. أمَّا في عصرنا، فقد بات يخوض في التفسير كلُّ من فشل في مجال تخصُّصه! فالمهندسون الزراعيُّون، بدل أن يشتغل أحدهم بالطماطم والخيار والبقدونس، يختار أن يشتغل مهندسًا تفسيريًّا للقرآن؛ ليكشف لنا، مثلًا، عن أسرار (سُورة يونس)، فإذا هي تتفتَّح له أكمام القنوات الفضائيَّة العَرَبيَّة على مصاريعها، ليصرعنا صبحًا وعشيًّا بإلهاماته العجيبة! وهذه تجارةٌ لن تبور، أربحُ له بكثير من الهندسة الزراعيَّة! والمهندسون الميكانيكيُّون كذلك، بدل أن يفتح أحدهم ورشة ميكانيكا، يفتح ورشة تفسيرٍ على ناصية إحدى القنوات؛ وللغايات نفسها!
– ولا تغمط الأطباء وغيرهم نصيبهم في هذه السوق الحديثة!
– وثَمَّة، إذن، معجزةٌ في الأمر، يؤكِّدها أنَّ هؤلاء المعجزين- أقصد المهندسين- ينتمون إلى بلدٍ عربيٍّ واحد، غالبًا! فجأة نزل عليهم إلهامٌ تفسيريٌّ في القرن الماضي وهذا القرن لكشف أسرار «القرآن»، وليس هذا بمصادفةٍ ولا بعبث!
– لكن ماذا عن سلفنا الصالح؟ تُرى ما مدَى علم (ابن كثير، -774هـ= 1373م)، أو قبله (الطَّبري، -310هـ= 923م)، مثلًا، وهما أبرز أعلام التفسير، بعلوم اللُّغة العَرَبيَّة، بل باللُّغة العَرَبيَّة في ذاتها، ودع عنك (علومها)؟
– ليس الكمال إلَّا لربِّ الكمال وحده. وكُلٌّ يؤخَذ من كلامه ويُرد، وليس فوق النقد. لننظر! كيف تجد الأوَّل يورد في تفسير الآية «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا»، بعد سلسلةٍ من الروايات ساقها في معنى «جَدِّ رَبِّنا»: «فأمَّا ما رواه ابن أبي حاتم: حدَّثنا محمَّد بن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدَّثنا سُفيان، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عبَّاس قال: الجَدُّ: أبٌ. ولو عَلِمَتِ الجِنُّ أنَّ في الإنس جَدًّا، ما قالوا: «تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا». فهذا إسنادٌ جيِّد، ولكن لستُ أفهم ما معنى هذا الكلام؛ ولعلَّه قد سقط شيء، والله أعلم.»(1) وذلك بعد أن أوردَ رواياتٍ أخرى حول معنى «الجَدِّ»، لم يلتفت قَطُّ في واحدةٍ منها إلى كلام العَرَب، بل إلى: قال فلان عن فلان، وحدَّثنا شعبان عن رمضان. ما يعني أنه هنا ناقل روايات، لا أكثر. وروايته الأخيرة هذه أغرب وأفدح. فكيف يُقبَل أنَّ معنى «الجَدِّ» هو «الأب» في الآية؟! ثمَّ كيف يحتجُّ بعِلم الجِنِّ على ما وردَ في «القرآن»؟ وهل جاء «القرآن» لينقل حرفيًّا ما قالوا، وإنْ جهلوا وأخطأوا، أم «القرآن» يحكي عن لسانهم ببيانه، لا بعِيِّهم وجهالتهم المفترضة؟ ثمَّ هل الإسناد الجيِّد يشفع لإيراد مثل هذه الرواية الغريبة؟ ليُعتذر عنها بعدم فهم هذا الكلام! فهذا الكلام مفهوم، لكنه ساقط المعنى، مهما صحَّ إسناده. وما بُني على باطلٍ فهو أبطل. ما بُني على ذلك الفهم الخاطئ- وهو أنَّ الجِنَّ لو عَلِمت أنَّ في الإنس «جَدًّا» ما قالوا: «تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا»- أشنع. لأنه يعني أنَّ «القرآن» يسوق ما يقال، وإنْ حمل جهالةً في المعنى أو في التعبير، وإنْ تعلَّق بالذات الإلهيَّة، بأن يجعل لها جَدًّا، في سياق ينفي عنها الصاحبة والولد. ثمَّ كأنَّ الإشكال إنَّما يكمن في «جَدِّ الإنس»، الذي لم يعلم الجِنُّ عن وجوده! وليس في «الجَدِّ= الأب» من حيث هو. بل كيف افترض عدم معرفة الجِنِّ ذلك؟ أكان معهم؟ أم سألهم؛ ليوثِّق لنا المسألة؟ مَن افترض هذا عِلَّته جهله هو بالمشترك اللفظي، وهو أنَّه لا يَعلم للكلمة معنى في اللُّغة غير (أبي الأب)؛ فما وجد مَخرجًا إلَّا في ذلك الافتراض، وعَزْوِه إلى عالَم الجِنِّ البُرآء.
– ولقد كانت في أقرب مرجع في لغة العَرَب وأدبهم مَنْجاةٌ من هذه التُرَّهات.
– نعم، كما كانت في ذلك مَنْجاةٌ عن إزجاء المطاعن، عبر هذا الجهل المعنعن، للطاعنين، وتنزيه «القرآن» عن ذلك كلِّه. ألم يسمع هؤلاء- من الإنس والجِن معًا!- قول (عنترة)، مثلًا:
يُكَلِّفُني أَنْ أَطلُبَ العِزَّ بِالقَنا ::: وأَينَ العُلَى إِنْ لَم يُساعِدْنِيَ الجَدُّ؟
فإنْ ينزهوا «القرآن» عن كلام الشعراء، أ فلم يفتحوا كتاب لُغة، أو معجمًا، ليقرؤوا ما ورد في «لسان العَرَب»، مثلًا، من قولهم: «الجَدُّ: البَخْتُ والحُظْوَةُ. والجَدُّ: الحَظُّ والرِّزق؛ يقال: فلان ذو جَدٍّ في كذا أَي: ذو حَظٍّ؛ وفي حديث القيامة: قال، صلى الله عليه وسلم: «قُمتُ على باب الجَنَّة، فإِذا عامَّة من يدخلها الفقراء، وإِذا أَصحاب الجَدِّ محبوسون.» أَي: ذوو الحَظِّ والغِنَى في الدُّنيا. وفي الدُّعاء: «لا مانعَ لما أَعطيتَ، ولا معطيَ لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ»، أَي: مَن كان له حَظٌّ في الدُّنيا، لم ينفعه ذلك منه في الآخرة. والجمع: أَجدادٌ، وأَجُدٌّ، وجُدودٌ، (عن سيبويه). وقال (الجوهري): أَي لا ينفع ذا الغِنى عندك، أَي لا ينفع ذا الغِنى منك غِناه. وقال (أَبو عُبَيد)، في هذا الدُّعاءُ: الجَدُّ، بفتح الجيم لا غير، وهو الغِنى والحَظُّ؛ قال: ومنه قيل: لفلانٍ في هذا الأَمر جَدٌّ، إذا كان مرزوقًا منه، فتأَوَّل قوله: لا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ، أَي لا ينفع ذا الغِنى عنك [كذا! والصواب: عندك] غِناه، إِنَّما ينفعه الإِيمان والعمل الصالح بطاعتك؛ قال: وهكذا قوله: «يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ»؛ وكقوله تعالى: «وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى»… قال أَبو عُبَيد: وقد زعمَ بعض الناس أَنَّما هو ولا ينفع ذا الجِدِّ منك الجِدُّ، والجِدُّ إِنَّما هو الاجتهاد في العمل؛ قال: وهذا التأويل خلاف ما دعا إِليه المؤمنين ووصفَهم به؛ لأَنه قال في كتابه العزيز: «يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ، كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَاعْمَلُوا صَالِحًا»؛ فقد أَمرهم بالجِدِّ والعمل الصالح، وحَمِدهم عليه، فكيف يَحمدهم عليه وهو لا ينفعهم؟! وفلانٌ صاعدُ الجَدِّ: معناه البَخْتُ والحَظُّ في الدُّنيا. ورجلٌ جُدٌّ، بضم الجيم، أَي مجدودٌ عظيم الجَدِّ؛ قال سيبويه: والجمع جُدُّون، ولا يُكَسَّرُ، وكذلك جُدٌّ وجُدِّيٌّ ومَجْدُودٌ وجَديدٌ. وقد جَدَّ وهو أَجَدُّ منك أَي أَحَظُّ… أَبو زيد: رجلٌ جَديد، إذا كان ذا حَظٍّ من الرِّزق، ورجلٌ مَجدودٌ مثله. ابن بُزُرْج: يقال هم يَجِدُّونَ بهم ويُحْظَوْن بهم، أَي: يصيرون ذا [كذا! ولعلَّه «ذوي»] حَظٍّ وغِنى. وتقول: جَدِدْتَ يا فلان، أَي: صِرتَ ذا جَدٍّ، فأَنت جَديدٌ حَظيظٌ، ومجدودٌ محظوظ. وجَدَّ: حَظَّ. وجَدِّي: حَظِّي، عن ابن السِّكِّيت. وجَدِدْتُ بالأَمر جَدًّا: حظيتُ به، خيرًا كان أَو شرًّا. والجَدُّ: العَظَمَةُ. وفي التنزيل العزيز: «وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا»؛ قيل: جَدُّه عَظَمته، وقيل: غِناه، وقال مجاهد: جَدُّ رَبِّنا جلالُ رَبِّنا، وقال بعضهم: عَظَمة رَبِّنا؛ وهما قريبان من السَّواء. [قال ابن عبَّاس: ولو عَلِمتِ الجِنُّ أنَّ في الإنس جَدَّا، ما قالت: «تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا»؛ معناه: أَنَّ الجِنَّ لو عَلِمت أَنَّ أَبا الأَبِ في الإِنس يُدعَى جَدًّا، ما قالت الذي أخبر الله عنه في هذه السُّورة عنها]. وفي حديث الدُّعاء: «تبارك اسمُك، وتعالى جَدُّك»، أَي علا جَلالُك وعَظَمتك. والجَدُّ: الحَظُّ والسعادةُ والغِنَى: وفي حديث أَنس: أَنَّه كان الرَّجُل مِنَّا إذا حَفِظ (البقرة وآل عمران)، جَدَّ فينا، أَي عَظُم في أَعيُننا، وجَلَّ قَدرُه فينا، وصار ذا جَدٍّ. وخَصَّ بعضهم بالجَدِّ عَظَمة الله عزَّ وجَلَّ، وقول أَنس هذا يَرُدُّ ذلك؛ لأَنَّه قد أَوقعه على الرَّجُل. والعَرَب تقول: سُعِيَ بِجَدِّ فلانٍ، وعُدِيَ بجَدِّه، وأُحْضِرَ بِجَدِّه، وأُدْرِكَ بِجَدِّه، إذا كان جَدُّه جَيِّدًا. وجَدَّ فلانٌ في عَيني يَجِدُّ جَدًّا، بالفتح: عَظُم.»
– وها أنت ذا ترى أرباب اللُّغة أنفسهم قد ساقوا الرواية المنسوبة إلى (ابن عبَّاس).
– أجل. وما أكثر ما حُمِل على (ابن عبَّاس) في تراثنا من الروايات، بل من الخرافات والأساطير أحيانًا!(2) لكنَّ ابن عبَّاس لم يقل: إنَّ معنى الجَدِّ في الآية «أبٌ، أو أبو أب»، بل أراد- حسبما يُستشفُّ من شرح (ابن منظور) الآنف- أنهم لو عَلِموا المعنى الآخَر لكلمة (جَدٍّ)، وهو: (أبو الأب)، لنزَّهوا الله عن استعمالها في هذا السياق.
– لكن يا للعجب! كيف لا يشمئز هؤلاء من معنى كلامهم، حين يزعمون أنَّ «القرآن» يورد كلام الجنِّ على عواهنه وعواره المزعوم.
– ثمَّ كيف يعتذرون بالجِن وبجهلهم مع أن كلمة «الجَدِّ» ذات معنى عَرَبي «إنسي»، وقد وردت في كلام العَرَب، كما رأينا، قبل نزول «القرآن»، بل في كلام الرسول نفسه، وفي معرض الدُّعاء لله؟!
– واضحٌ أن (ابن كثير) إنَّما أورد الرواية ليردَّها. لكنه ما كان له أن يوردها أصلًا، أمَّا وقد أوردها، فقد كان عليه أن يردَّها ردًّا عِلميًّا لُغويًّا، غير مكتفٍ بالقول: «لستُ أفهم ما معنى هذا الكلام؛ ولعلَّه قد سقط شيء، والله أعلم!»
– ذلك وباء الرواية الشفويَّة في التراث، فإنَّما يقع مثل هذا عن الحرص على النقل، والتكثُّر من العنعنات، والتعالم بكلِّ روايةٍ شاردةٍ أو واردة، ليصنع ذلك كل هذا النسيج المتضارب، والأمشاج المتقاطعة، لتبتلينا. فيغدو كتاب المؤلِّف من هؤلاء «حطب ليل»، في غياب تفكير، وتأمُّل، وتحليل، ونقد، يتلوه غياب تحقيقٍ يستحق هذا الاسم في عصرنا الحديث. ولقد عبَّر عن هذا الوباء الروائي في تراثنا (المسعودي، -346هـ= 957م)، بما يدلُّ على أنها مصنَّفات لا مؤلَّفات في معظمها.
– ما الفرق؟
– (المؤلَّف) فيه قدرٌ من تحليل المادَّة ومقارنتها ونقدها. أمَّا (المُصنَّف)، فعلى اسمه، جمعٌ وتصنيف، أي ترتيب وتبويب للمادَّة، لا أكثر.
– ماذا قال (المسعودي)؟
– قال- وقد صدقَ في التعبير عن معظم التأليف قديمًا- عن (الجاحظ، -255هـ= 868م)، مثلًا: «وإنَّما كان حاطبَ ليل، ينقل من كُتب الورَّاقين.»(3) ويصحُّ هذا أكثر على من يتلقَّف الروايات بلا تمحيص. وقال في موضع آخَر: «ولولا أنَّ المِكثار كحاطب ليل، والإيجاز لمحةٌ دالَّة، ووَحْيٌ صَرَّح عن ضمير، والبلاغة إيضاحٌ بإيجاز، لأسهبتُ في هذا الباب.»(4) بل إنَّه ليبدو واصفًا نفسه هو بما وصف به غيره من المصنِّفين، حيث قال: «ولولا أنَّ المُصَنِّف حاطبُ ليلٍ؛ لذِكره في تصنيفه مِن كلِّ نوع، لما ذكرنا هذه الأخبار؛ إذ الناس من أهل العِلم والدِّراية في قبول الأخبار على وجوه.»(5)
أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيفي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن كثير، (1999)، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمَّد السَّلامة، (الرِّياض: دار طيبة)، 8: 238 (تفسير سورة الجِن).
(2) ذلك أن الاضطرار إلى العنعنات الشفهيَّة في القرنين الأوَّل والثاني من الهجرة دليل على أنْ لم تكن بين أيديهم مدوَّنات سابقة مطلقًا، وأنَّ سابقيهم، لم يجمعوا، ولم يكتبوا، ولم يروا لذلك ضرورة، بل رأوا فيه ضررًا. ولعلَّهم كانوا محقِّين في بعض ذلك، فما تمزَّقت فِرق الإسلام، وتشعَّبت بها السبل، إلَّا بعد أن اتخذت كلُّ طائفةٍ من تلك المرويَّات المدوَّنة مصدر تشريعها.
(3) المسعودي، (1978)، مُرُوْج الذَّهب ومعادن الجوهر، عُني بفهرسته: يوسف أسعد داغر، (بيروت: دار الأندلس)، 1: 67.