د. أحمد يوسف
أمد/ تتشكل حيوية رجل السياسة من زاويتين: الأولى؛ امتلاك الرؤية بكلِّ ما تمثله من أبعاد سياسية ومجتمعيه في سياقات الخلاص الوطني، والثانية؛ هي القدرة على خلق حالة إجماع حولها، وقوة دافعة لإكمال وضع نقاطها على الحروف، وتجسيدها واقعاً قابلاً للحياة.
ونظراً لأن خلفية النائب محمد دحلان الحركيِّة تعود إلى سنوات شبابه، كإبنٍ للمخيم وطالبٍ بالجامعة الإسلامية، وناشطٍ متمرس في إطار حركة الشبيبة الفتحاوية، التي أسسها القيادي “أبو علي شاهين” في مطلع الثمانينات، وهو ما ترك بصمةً أسهمت في تشكيل وعيه ومستقبله السياسي.
كانت بدايات الشاب محمد دحلان تضُّج بالثورية، وعمق الانتماء إلى حركة فتح والرئيس ياسر عرفات (رحمة الله )، وهذا ما جرَّ عليه غضب الاحتلال، إذ تمَّ اعتقاله لفترة من الزمن، جرى بعدها ترحيله إلى الأردن، وهناك كانت تحركاته مقيدة، مما اضطره للمغادرة إلى مصر والإقامة في القاهرة، إلا أنَّه لم يمكث بها طويلاً، لاعتبارات تتعلق بنشاطاته الوطنية الثورية الزائدة عن الحد، كاحتضان وتأمين مأوى آمن لشابين من التيار الإسلامي، كان قد سبق وأن نجحا في الهروب من سجن غزة المركزي عام 1987، وتمكنا من اجتياز الحدود إلى مصر، وهذا ما أدى إلى تسفيرهم معاً إلى العراق ومن هناك إلى تونس.
في تونس، حيث مقر قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والرئيس ياسر عرفات (رحمه الله)، أصبح دحلان قريباً من الصف الأول لهذه القيادة ومن رجالاتها التاريخيين، وخاصة من القائد خليل الوزير (أبو جهاد).
لا شكَّ أنَّ تلك الرفقة لقيادات منظمة التحرير قد أكسبته وعيَّاً سياسياً متقدماً، أضاف لحركيته الثورية تكاملاً بنيوياً، جعله أكثر بصيرة وحكمة في التسديد والمقاربة، وإن كانت عصبيته التنظيمية قد أخذته بعيداً باتجاه الجنوح والتطرف في خلافاته مع حركة حماس، والتجني -أحياناً- في الخصومة ولغة الخطاب.
بعد الاشتباكات المسلحة مع حركة حماس عام 2007، والتي تمخض عنها أكثر من 600 قتيلٍ ومثلهم من الجرحى، سالت دماؤهم هدراً، وتحمَّل وِزّرها الجميع، وكانت النتيجة هي القطيعة والانشقاق بين الطرفين، وخروج قطاع غزة عن سيطرة السلطة وخضوعه بالكُليِّة إلى حكم حركة حماس.
بعد خلاف دحلان مع الرئيس محمود عباس (أبو مازن)، اضطر دحلان للخروج إلى الأردن بعد استهداف بعض خاصته، ثم الإقامة في الإمارات التي احتضنته وفتحت له الأبواب كمستشارٍ خاص، وشخصيّةٍ تمتلك خلفية أمنية ودراية واسعة بالشؤون الإسرائيلية، وكفاعلٍ سياسي صاحب كاريزما ممتدة الساحات والعلاقات، ومناضلٍ نجح في قيادة تحركٍ إصلاحيٍ داخل حركة فتح، وبناء إطارٍ تنظيمي بكيانيّة جديدة على خطى ونهج الزعيم التاريخي للحركة ياسر عرفات (رحمه الله).
وبناءً على وقائع ما سبق، فقد تمكَّن الفصيل الجديد (تيار فتح الديمقراطي الإصلاحي) من فرض نفسه على الخريطة النضالية والحزبية، ولعله اليوم يتمتع بمكانة متقدمةً، من حيث الترتيب الفصائلي والقدرات التنظيمية والإمكانيات الحركيَّة والمالية، وقد تنامت شعبية التنظيم بفترة قصيرة نسبياً متجاوزة الـ 120 ألفاً، أغلبهم من الطاقات الشبابية والكوادر الوطنية الفتيِّة.
في سياق هذه التطورات التي مرَّ بها دحلان، متخطياً ثلاثة عقود من المساحات الزمنية المثقلة بالصراعات التنظيمية والخصومات الحزبية، التي أنضجته سياسياً وأوصلته -فكرياً ونضالياً- إلى الاقتناع بأهمية الشراكة السياسية، وضرورات الانفتاح والتقارب مع حركة حماس، والبحث عن مجالات تجمع ولا تفرق، وتصُّب مُخرجاتها في فضاءات مريحة ومُربحة من التعاون والتنسيق، كجمعية التكافل الاجتماعي واللجنة الوطنية للشراكة والتنمية، بهدف استنهاض الحالة الفلسطينية وطنياً وسياسياً، واستعادة حيوية التواصل وبناء الثقة مع العمقين العربي والإسلامي، لرفع مستويات الدعم والمساعدة والإسناد، إذ إنَّ إيجابيات هذا التقارب ستسهم -بلا شك- في تكريس أسس ومجالات العمل المشترك ميدانياً، وهذا ما يجعل جغرافيا القواسم المشتركة تتوسع باتجاه الرؤية المطروحة، التي يمكن التفاهم حولها كاستراتيجيةٍ للتحرير وحلِّ الصراع، ويمكن أن تحظى بقبولٍ ودعمٍ أممي، لا ترى فيه أمريكا والغرب الأوروبي تهديداً وجودياً لإسرائيل؛ وهي المعزوفة التي يُروِّج لها الصهاينة
-زوراً وبهتاناً- في كلِّ مكان.
واليوم؛ فإنَّ ما يعرضه النائب محمد دحلان -القائد السياسي- في إطار رؤيته القائمة على حلِّ “الدولة الواحدة – ثنائية القومية”، إنما هو تصورٌ مبنيٌّ على رؤية تاريخية، سبق فيها للشعبين -الكنعانيين العرب واليهود- أن تواجدا على أرض فلسطين التاريخية، وتعايشا متسامحين -قبل الإسلام- لقرونٍ طويلة، وقد استمرت تلك العلاقة في صيرورتها التاريخية من التعايش والتسامح الديني حتى بعد مجيء الإسلام، إلَّا أن دخول الحركة الصهيونية العالمية على خط العلاقة بينهما، بهدف الاستيلاء على الأرض وتفريغها من أهلها الشرعيين، بدعم من القوى الاستعمارية الغربية، وعبر سياسات الطرد والتهجير القسري، كان وراء إفساد تلك الأجواء من العلاقة التاريخية بين الفلسطينيين العرب واليهود.
في الحقيقة، إنَّ الأفكار التي جاءت بها الحركة الصهيونية في السياقات القومية والدينية والتي أسهم الغرب الأوروبي في حياكتها، قد دفع الأقليات اليهودية المتواجدة فيه للهجرة إلى فلسطين، والعمل على التخلص من أهلها الأصليين، وهذا ما فتح باب الصراع على مصراعيه لأكثر من سبعة عقود، إذ ما تزال تلك الحروب والمواجهات المسلحة قائمة، وما الحرب العدوانية التي تدور رحاها -حالياً- على أرض قطاع غزة إلا واحدة منها، حيث اعتمدت حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة سياسة الأرض المحروقة (الإبادة الجماعية) لشطب الفلسطينيين من خارطة الوجود الإنساني!
إنَّ ما طرحه دحلان في رؤيته القائمة على حلِّ الدولة الواحدة (ثنائية القومية)، يُمكن أن يُجهِض ادعاءات إسرائيل والحركة الصهيونية حول “التهديد الوجودي”، والتي يوظّفها المتطرفون الصهاينة لتبرير سياساتهم في القتل والتجويع والحصار لإبادة شعبنا الفلسطيني.
في اعتقادي اليوم، والذي يشاركني فيه الكثير من الفلسطينيين؛ فإنَّ فكرة الدولة الواحدة (ثنائية القومية) هي طرحٌ يمكن أن تتوسع حوله النقاشات ليأخذ مساراً تتعاظم فيه القناعات حتى بين الإسلاميين في الداخل والخارج.
إنَّ إسرائيل الصهيونية (الدولة المارقة) مهما تعاظمت قوتها، فإنها ستبقى في سقفها الديموغرافي محدودة العدد، وهي جغرافياً مُقيدة المدى، وسيظل الطرف الفلسطيني في إطار هذه المعادلة الصراعية الأكثر تنامياً وحضوراً في محيطه العربي- الإسلامي، وهو ما يجعل المستقبل السياسي لهذه الأرض فلسطينياً بامتياز.
إنَّ ما يعرضه دحلان من رؤيةٍ للدولة الواحدة، هو فكرةٌ متقدمة لدحض الأكاذيب ونزع الشرعيّة عن كلّ ما تدَّعيه إسرائيل عن خطر “التهديد الوجودي” الذي يطارد استقرار وأمن كيانها، ويمنح الفلسطينيين الأرضية الأخلاقية (High Moral Ground) لكسب تعاطف الكثير من الشعوب، التي تمَّ خِداعها لأكثر من سبعة عقود بالدعايات الصهيونية المضللة.
وعليه؛ فإن ما ارتكبته إسرائيل في حربها القائمة على قطاع غزة، والمشاهد الموثقة للمجازر التي ارتكبها جيش الاحتلال بالصوت والصورة، وأظهرتها الفضائيات العربية والعالمية، وانعكست تأثيراتها على الرأي العام في الدول الغربية على شكل تظاهرات ووقفات وتحركات احتجاجية، هزَّت عواصم تلك الدول ووضعت مصالحها في دائرة الاستهداف والخطر، ومن جانب آخر؛ أوجدت حالةً -غير مسبوقة- من التعاطف الإنساني الكبير مع الفلسطينيين، ويمكن استثمارها والبناء عليها في رفع منسوب التعامل الإيجابي مع المظلوميِّة الفلسطينية، وتحجيم مخططات الصهيونية الدينية التي يقودها -اليوم- بن غفير وسموتريش لحسم الصراع مع الفلسطينيين بالطرد والإبادة الجماعية.
ختاماً.. إنَّ ما يطرحه دحلان اليوم ليس جديداً كفكرةٍ، ولكنّه مهم جداً، من حيث التوقيت واللحظة التاريخية لوقف الحرب العدوانية المدمرة على قطاع غزة، وإفشال مخططات نتنياهو وأحلامه الصهيونية الاستعمارية بتمدد قلاع الاستيطان اليهودي على كلِّ أرض فلسطين التاريخية.
*صفحات من كتابي القادم (رغم الخصومة.. دحلان كما عرفته)