محمد المحسن
أمد/ تصدير : “لن تعرف نفسكَ حقاً إلا إذا خرجتَ منها”،كما يقول الشاعر أدونيس،وكذا تعرّفنا الشّاعرة الفلسطينية أ-عزيزة بشير عن ذاتها الشّعريّة بعد أن أُخرِجت من أناها،لنستدلّ على الشّاعرة الكائنة فيها.فنستقرئ في قصيدتها”غزة العزة” التّركيبة الوجدانيّة لشخصيّة الشّاعرة الّتي تتدرّج شعريّاً حتّى تبلغ مقام الرّؤى،بدءاً من طقوس الكتابة حتّى ترتقي بنا سلّمها الشّعريّ شيئاً فشيئّاً إلى موطن الشّعراء،عالم الجمال الحرّ.
إذا كان الشّعر عالم الحبّ والجمال وموطن الحرّيّة الكاملة،حيث يتحرّر الشّاعر من قيوده ويتفلّت من أناه ومن قيود اللّغة،ليحقّق الحرّيّة المتكوّنة في أفق الشّعر.وإذا كانت الحالة الشّعريّة وحياً ينسكب في ذات الشّاعر فينفتح على نوره ويستدلّ على الاستنارة الشّعريّة،فالشّاعر هو ذاك المستنير الخارج عن الأنا والمتّحد بالحالة الشّعريّة اتّحاداً كاملاً.فيخرج من الإطار الإنسانيّ إلى الإطار الشّاعريّ.ذاك ما نقرأه في قصيدة الشاعرة الفذة أ-عزيزة بشير، إذ تنقلنا إلى عالم الشّاعرة وترتفع بنا إلى ما بعد الكلمة حتّى ندرك بها ومعها عوالم لا يدركها البصر،وإنّما تعاينها البصيرة وتتلمّس جمالها.
وهنا أقول :الشّاعر حرّ نسبة للعالم الّذي ينتمي إليه،عالم الشّعر.ويعتنق مذهب القصيدة الّتي بفعلها يتحرّر من عتمة الأرض ليستنير بنور الشّعر.
والشّاعر الرّائي يحمل الهمّ الإنسانيّ ويتألّم،وقد يرجو إزالته بالشّعر وذلك بنثر عطر الجمال في النّفوس.فذاته الشّعريّة وإن كانت محلّقة في عوالم الشّعر ترفق بالحال الإنسانيّ الواقعيّ وتبحث في تفاصيله وتحمل همومه بصمت.
عندما تأتي القصيدة وهي محملة بآهات الشاعر ومعاناته،فهي بلاشك تفوح بالبوح العذب،ومن هنا فإن أول ما يتبادر إلى أذهاننا هو تلك المعاناة التي يكتب بها الشاعر لتلامس وجدان القارئ،الذي يتفاعل معها لتكون لدية ردة فعل،ولذلك فإننا نجد مدى ارتباط بوح الشاعر بوجدان القارئ لأننا لا نستطيع الحكم على القصيدة إلا من خلال ما بها من معاناة تجعلنا نبحر في قراءتها والتمعن في معانيها.
إذا عدنا بالذاكرة الى الوراء أي زمن شعرائنا القدامى لوجدنا ما يثير الوجدان بشكلٍ كبير من خلال سياق النص الشعري آنذاك،ولذلك نجد مدى تجسيد صورة المعاناة في معظم قصائدهم، التي أخذونا بها إلى عالم من الجمال والإبداع الذي يتكئ على روح الشعر الحقيقي،لكونهم يكتبون بإحساسهم المتفرد الذي من خلاله تتم زراعة إحساس القارئ في فكره ووجدانه.وهنا أستحضر قول العقاد في نقده لأمير الشعراء،شوقي: “إن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء،لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها.وإن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشيء ماذا يشبه وإنما مزيته أن يقول ما هو،يكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به”.*
نتابع معا هذه القصيدة التي تنزف دمعا ووجعا للشاعرة الفلسطينية المغتربة أ-عزيزة بشير
“غزّة العزّةُ،يُبيدون شعبَها ويُجرّفون أرضَها وما فَوْقَها،طمَعاً بِما تحتَها من ثرَواتٍ بِمعونة الغربِ قاتلهُمُ إللهُ أنّى يؤفَكون!
وهْوَ الذي في السّماء إلهٌ وفي الأرضِ إلهٌ (1)
أرَى نصْرَ( غزّةَ) قادِماً..وستَنْجَلي
أرَى نصرَ غزّةَ والهزيمةُ لِلعِدا
والنِّتنُ يُقهَرُ والبِلادُ..تعودُ لي
(غزّا )تُحاسِبُ كلَّ مُجرِمِ دَكَّها
وتقولُ للدّنيا انظُري..وَتأمّلي :
“أللهُ معْنا ناصِراً عَلى (نِتْنِهِمْ)
مَهْما أَبادَ،فلنْ يَفوزَ..بِأَنْمُلِ
فالأرضُ أرْضي والسّماءُ مِظلّتي
ثَرَواتُ أرْضي لَن تكونَ..لِقاتِلي
ثَرَواتُ أرضي والبِلادُ وقُدسُها
(غزّا )،لنا لن تُستباحَ..بِمَقتَلِي
(غزّا) تُحاسِبُ (بايْدِناً) وفَصيلَهُ
ماذا جنَى الأطفالُ..كيْمَا تُقتِّلِ ؟
ماذا جنيْنا كيْ نُبادَ وَنُبتَلى ؟
قُطِعَتْ رؤوسُ..مَعَ الأيادِي وَأرجُلِ
ذابتْ جُسومُ تبخّرتْ..يا ويلَكمْ!
أيُّ السّلاحِ اختَرتُموهُ..لِمَقْتَلي؟
تحت التّرابِ دِمانَا تسألُ قاتِلاً:
أيْنَ الجُسومُ وأينَ بيتِي؟..وتعتَلي
ما تفعلوا ( بالغازِ) بعدَ إبادَتي؟
سيكونُ ناراً في الحَشا.بِهَا تصْطَلي
ثَرَواتُ تحت الأرضِ باقيَةٌ لَنا
بِدِمانَا نحرُسُها وَعيْنِ..مُقاتِلِ!
(عزيزة بشير)
إنّ القصيدة في مضمونها قائمة على الالتزام بقضية الانتماء المكاني المقدس،وقضية فلسطين الكبرى،إلا أنّ الشاعرة لم تفتح المجال لقصيدتها بالسقوط في فخ المباشرة،فقد حاولت بالتعبير الفني إيصال فكرتها التي تتحدث عنها،متجاوزة عثرات الكلام الخطابي المباشر،الذي عادة -في مثل هذه الموضوعات-تهيمن فيه اللغة الخطابية التي تعمل على إثارة النفس،والاستئثار بالعاطفة أكثر من التركيز على الجماليات،لكنّ أ-عزيزة بشير قدّمت قصيدتها بصورة سلسة تتناسب مع اللغة التي عبّرت عنها.
هذا،وازدانت القصيدة بوشاح الأمل،إذ أن غزة الصامدة ستنتصر وستمرّغ أنف المحتل في التراب وتتجلى نصرة الله لشعب يرسف في الأغلال،ويقاوم المحتل بالظفر والناب..”أرَى نصْرَ( غزّةَ) قادِماً..وستَنْجَلي
أرَى نصرَ غزّةَ والهزيمةُ لِلعِدا
والنِّتنُ يُقهَرُ والبِلادُ..تعودُ لي
(غزّا )تُحاسِبُ كلَّ مُجرِمِ دَكَّها
وتقولُ للدّنيا انظُري..وَتأمّلي :
“أللهُ معْنا ناصِراً عَلى (نِتْنِهِمْ)
مَهْما أَبادَ،فلنْ يَفوزَ..بِأَنْمُلِ
دلالة الأمل في النصر المبين أكثر عمقا واشتغالا في فنيات القصيدة من غيرها،إذ تُعبّر عن الروح الداخلية التي تنطلق من الشاعرة راسمة حدود الكلام ومقتضياته وفنياته.وهنا نجد القصيدة تبحث في الدلالات الداخلية مستحضرة مفردات مثل: (الجسوم،البيت،النار،الحشا..) للدلالة على جبروت المحتل وهزيمته الحتمية في ذات الآن، مشيرة إلى الهُوية والاقتران بالمكان “ثَرَواتُ تحت الأرضِ باقيَةٌ لَنا..بِدِمانَا نحرُسُها وَعيْنِ..مُقاتِلِ!”
إنّ في النص انتماء،وهُوية،وارتباطا..انتماء للمكان،وهوية دينية،ومرجعية تاريخية،وارتباطا بالمقدّس،لم تتغافله الشاعرة في كتابتها الفنية عن امهات القضايا في العصر الحديث…قضية فلسطين..وهنا تبرز صورة غزة رمز العزة،كونها عروس المدائن في صمودها الأسطوري، ولوحة شعرية تتجاذب الشاعرة صورها الشعرية على مدى الزمن.
ختاما نشير إلى أن الشاعرة تعمدت تصدير قصيدتها بالآية الكريمة التي استشكلت في بداية الأمر على جموع علماء التفسير واستوقفت الشيخ الشعراوي في تفسيرها،وفسرها عبد مجهول من عباد لله،هي قوله تعالى:(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (الزخرف/84).
وهنا أدعو القراء الكرام إلى البحث والتمحيص في هذا الإعجاز القرآني،والإطلاع على هذه القصة العجيبة من خلال بحث صغير عبر الشبكة العنكبوتية..دون أن ينسوا توجيه باقة من التحايا إلى الشاعرة الفلسطينية الفذة أ-عزيزة بشيرالتي ذكرتنا بهذا الإشكال..فهو هو ليس قصة من كتاب ألف ليلة وليلة،حيث لن يأتيهم السندباد على البساط السحري ولن يخرج لهم علي بابا من مغارة الأربعين حرامي،بل سيأتيهم مفسر لآيات القرآن الكريم الشيخ الشعراوي، وفضيلة الشيخ محمود شلتوت رحمه الله (شيخ الأزهر حينذاك) وأحد أساتذة تفسير القرآن الكريم،وأخيرا..رجل لم يروه من قبل ولا من بعد..تولى مهمة تفسير الآية الكريمة..
اللهم قد بلغت..اللهم فاشهد..